الجزائريون يلفقون والمغاربة يتلقفون أو سوء الفهم الكبير
لا أ حد يجادل في أن الأمازيغ هم سكان شمال إفريقيا الأولون وكلنا يتذكر كتب التاريخ التي كانت مقررة على الخصوص في المدارس الحرة والتي تعلمنا فيها أن سكان المغرب الأولون هم الأمازيغ.
ولم تكن هذه الحقيقة تزعج أحدا أو تلقى أي معارضة أو تشكيكا من أي جانب. إلا أن المفارقة بدأت تظهر للوجود عندما أصبح رواد الأكاديمية البربرية لباريس ورواد المؤتمر العالمي الأمازيغي يعتبرون سكان إفريقيا الشمالية سكانا أصليين وهذا أمر مسلم به لكنهم يضعونهم على كفة واحدة مع السكان الأصليين في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا وإفريقيا وخاصة بعد صدور إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1993 التي اعتبرت هؤلاء السكان الأصليين أي “الأطوكطون” أو “الأنديجان” ذوي حقوق ينبغي مراعاتها من طرف الشعوب التي استعمرتهم.
إن هذا الطرح من جانب النشطاء الأمازيغ في المغرب العربي الكبير فيه كثير من الإجحاف على التاريخ ومجافاة لحقيقة الانصهار بين الذين أسسوا الأمة المغاربية مع السكان الأوائل ونكرانا لدور العرب اللذين حموهم من الإبادة.
إنه ينبغي التذكير أولا وقبل كل شئ بتعريف الشعب الأصلي أي “الأطوكطون” أو “الأنديجان” الذي يشير إليه إعلان 1993 والذي يعرف هذه الشعوب الأولية أو الأصلية أو “الأنديجان” بأنها الشعوب التي كانت تعيش في بلد حلت به شعوب مختلفة أصبحت هي السائدة ومسيطرة إما بالغزو أو الإستعمار. فهل هذا التعريف ينطبق على سكان المغرب العربي الكبير الأصليين؟ للجواب على هذا السؤال سنقوم بجولة عبر العالم لنطلع على مصير الشعوب الأصلية في مفهوم الإعلان العالمي المذكور.
ولنبدأ بأمريكا الشمالية التي يعرف الجميع بما في ذلك حتى الأميون الذين استطاعوا معاينة مأساتهم على الأقل عن طريق أفلام الكوبوي حيث قام الرجل الأبيض بإبادة نحو مائتي مليون من ساكنة هذه القارة الشمالية ولم يبق منهم اليوم سوى بضع مخيمات تعيش في عزلة تامة عن باقي السكان الجدد.
أما في أمريكا الجنوبية فقد وقع نفس الشئ بل إن بعض شعوبها انقرضت إلى الأبد كما حدث لسكان “باطاكونيا” في الأرجنتين لأسباب متعددة من بينها أن الرجل الأبيض اعتبر هؤلاء السكان مجرد بشر لا يصلحون لشيء وبالتالي فإن إبادتهم أمر عادي وبمباركة الكنيسة الكاثوليكية.
ونفس الشيء حدث في أستراليا حيث يكاد ما بقي من سكانها “الأبوريجان” قد يتواجد في المتاحف فقط ونفس الشيء يقال عن الكثير من قبائل إفريقيا.
وغير بعيد عنا وعلى بعد عشرات الكيلومترات من الشاطئ المغربي الأطلسي أباد الإيبيريون سكان جزر الكناري “الكواناش” عن آخرهم بصفتهم سكانا أصليين “أوطوكطون” فقط. وهنا يطرح سؤال عريض هل تعرض أمازيغ شمال إفريقيا لما تعرض له السكان الأصليون في أمريكا وأستراليا وجزر الكناري؟ الجواب بالتأكيد لا. وهنا يطرح سؤال ثاني عريض كذلك: هل كان من الممكن تعرض أمازيغ شمال إفريقيا للإبادة مثل الهنود الحمر و“أبوريجان” أستراليا لولا اندماج العرب على قلتهم مع الأمازيغ في بوتقة الدين الإسلامي؟ الجواب بالتأكيد هو نعم.
نعم إذ بفضل هذا الإندماج تشكل في هذه البلاد وعي جديد بالمواطنة لم يكن متوفرا قبل ذلك حيث كانت المواطنة لا تتعدى القبيلة التي يمكن التغلب عليها بسهولة واحدة تلو الأخرى.
وهكذا وبفضل هذه الوحدة بين الشعبين تأسست في شمال إفريقيا دول عظمى هي المرابطون والموحدون والمرينيون وكلها دول أمازيغية بامتياز دون أن يعارض ذلك العرب على قلتهم أو يروا ضيرا في تأسيسها بل أسهموا فيها كوزراء وكتاب وأطباء وعمال وقادة.
بل إن الأندلس نفسها تم غزوها بقيادة قائد أمازيغي وهذا أسطع دليل على أن الأمازيغ ليسوا “أوطوكطون” ولم يهضم لهم أي حق قد يطالبون به بل أصبحوا بفضل هذا الوعي الجديد قادة البلاد وسادتها. فتعريف “الأوطوكطون” الذي أعطته الأمم المتحدة للشعوب الأصلية لا ينطبق على سكان شمال إفريقـيـا.
وبالتالي فإن التشبث بتعريف الأمـم المتحدة بكونه يشمل أمازيغ المغرب العربي يراد به شيء آخر. ولتبرير موقفهم الذي يصادف هوى ما عمل الاستعمار الفرنسي على غرسه على الخصوص في أمازيغ القبائل الجزائرية لم يكف هؤلاء على الخصوص عن طريق الأكاديمية البربرية لباريس عن اختلاق ما قد يعتقد أنه من عناصر التأسيس لأمة أمازيغية كانت حقوقها مهضومة كما يدعون متغاضين عن قصد أن الدولة الوحيدة التي وحدت شمال إفريقيا من نهر السينغال إلى الحدود مع مصر هي دولة أمازيغية تسمى دولة الموحدين إضافة إلى إقليم الأندلس.
وهكذا قام جزائري في “تيزي أوزو” اسمه محمد عرب باسعود بمنطقة القبائل الجزائرية بصنع ما أسماه الراية الأمازيغية حيث تبنتها الأكادمية البربرية لباريس في السبعينيات ثم رسمها المؤتمر الأمازيغي العالمي في مدينة “تينيريف” بجزر الكناري التي كانت مسكونة كباقي شمال إفريقيا بالأمازيغ قبل إبادتهم عن آخرهم من طرف الإيبيريين ولو كتب للموحدين ضم هذه الجزر لما وقعت هذه الإبادة الجماعية لكن حتمية الجغرافيا قضت بألا يكون المغاربة شعبا بحريا.
هذه الراية هي التلفيق الأول.
أما التلفيق الثاني فيتعلق بالسنة الأمازيغية:
اعتمد سكان شمال إفريقيا منذ الوجود الروماني التقويم الجلياني لأنه هو الذي كان سائدا في محيط البحر الأبيض المتوسط بفضل جوليوس قيصر، قيصر روما الذي اقتبسه من المصريين بعد أن غزا هذا البلد خلال حكم كيلوباترا وعاد إلى روما في سنة 46 قبل الميلاد وسمي آنذاك بالتقويم الجلياني نسبة إليه ولازال العمل به ساري المفعول في المغرب العربي الكبير من موريطانيا إلى ليبيا حتى أن أسماء الشهور لازالت تستعمل بجرسها الروماني: – يناير – براير – مارس – بريل – مايو – يونيو – يوليوز – غشت – شتنبر – كتوبر – نونبر – دجنبر.
والجدير بالذكر أن هذا التقويم الجلياني لا يجري العمل به في المغرب العربي فقط إلى الآن بل لازال العمل به كذلك في مناطق شاسعة من العالم وهي المناطق التي يدين فيها الناس بالمسيحية على المذهب الأورثودوكسي أو الكنيسة الشرقية كأقباط مصر وأرثودوكس أثيوبيا واليونان وروسيا وجورجيا وسائر الأقباط المهاجرين عبر دول المعمور.
وسبب الاحتفاظ بالتقويم الجلياني إلى حد الساعة من طرف المغاربيين يختلف عن سبب احتفاظ الأرثودوكس بهذا التقويم.
ذلك أنه في الوقت الذي احتفظ فيه المغاربيون بالتقويم الجلياني لأسباب فلاحية لتحديد الفصول الفلاحية مثل “الليالي” و“السمايم” فإن احتفاظ الأرثودوكس بهذا التقويم الشمسي الجلياني يعود إلى أسباب دينية مذهبية حيث إن البابا كريكوار الثامن عشر “بابا الكاتوليك” قرر في سنة 1582 إصلاح التقويم الجلياني وذلك يحذف الانحراف الذي يقع فيه كل قرن.
ولمحو الانحراف الذي بلغ في سنة 1582 المذكورة 10 أيام، وضع البابا المذكور تقويمه الجديد حيث أصبح يوم الخميس 4 أكتوبر 1582 هو يوم الجمعة 15 أكتوبر لكي يعوض الفرق الذي تراكم منذ قرون وهكذا كان ميلاد التقويم الكريكوري نسبة إلى هذا البابا كما صادف ذلك أن عيد ميلاد المسيح عيد “بابا نويل” في 25 دجنبر الذي تبنته الكنيسة الكاثوليكية.
وفي الوقت الذي أصبح الفرق فيه 11 يوما بين 1700 و1800 أصبح هذا الفرق الآن هو 13 يوما وسيصبح بين 2100 و2200، 14 يوما وبين 2500 و2600، 17 يوما وهكذا إلى أن يتدخل أحدهم لابتكار إصلاح جديد.
لكن الأورثودوكس بصفتهم مذهبا لا يتبع لبابا الكاثوليك رفضوا الإصلاح الذي قام به الباب كريكوار الثامن عشر واستمروا في الاعتماد على التقويم الجلياني إلى اليوم حيث بالنسبة إليهم يعتبر رأس السنة هو 31 دجنبر الجلياني (13 يناير الكريكوري) و عيد الميلاد هو 25 يناير الجلياني (7يناير الكريكوري) رغما عن كون معظم شعوب العالم تعمل به وهو التقويم المسمى في المغرب بالتقويم الإداري الذي اكتشفه المغاربيون مع بداية الاستعمار الأوروبي لكنهم احتفظوا مثل الأرثودوكس بالتقويم الجلياني لكن ليس لأسباب دينية مذهبية وإنما لأسباب فلاحية ومناخية.
وهكذا يعتبر الفلاح المغربي سواء في مدينة أزرو أو في مدينة أبي الجعد مثلا يوم 13 يناير الكريكوري (الإداري الجاري به العمل قانونيا) نهاية شهر دجنبر وفي نفس الوقت رأس السنة الفلاحية أو “حا كوزاء” التي يحتفل فيها المغاربة قاطبة بجميع أطيافهم ولا خلاف بينهم في ذلك إلا في وجبة العشاء التي تتراوح بين الكسكس بسبعة خضر في السهول وبعض المناطق الجبلية وبين “الكرعين أو إفنزا” كما هو الشأن في منطقة سوس، مرورا “بالقراشل” في مدينة فاس.
وفي سنة 1980 قام جزائري اسمه عمار النكادي المنتمي للأكادمية البربرية لباريس وقرر بأن رأس السنة الأمازيغية هو 13 يناير وأن بداية هذه السنة ابتدأت منذ 950 قبل الميلاد، قرار تحكمي انفرادي.
قرر ذلك من عندياته دون أن يسهم فيه المغاربة الأمازيغ بل اكتفوا بتلقف هذا التلفيق بالرغم من كونه مجرد استنساخ لعمل الغير من جوليوس قيصر إلى كريكوار الثامن عشر إلى الساهرين حاليا في أوروبا على علم هذا التقويم بحساباته الدقيقة المعقدة في علم الفلك دون تمحيص أو نقد وهذا هو التلفيق الثاني الذي تلقفه المغاربة.
أما التلفيق الثالث ولعله ثالثة الأثـافي وهو ادعاء ما يسمى بالتيفينـاغ بأنه حرف أمازيغي والحال أنه صنع فرنسي بحت بـدأه المستعمرون الفرنسيون الأوائل للجزائر وأكملته الأكاديمية البربريـة لباريس التي هيمن عليها الجزائريون على الخصوص من القبائل.
إن الأمازيغية بقيت على الدوام لغة شفهية ولم تكتب من قبل إطلاقا قبل المحاولات التي قام بها منظرو الاستعمار الفرنسي بالجزائر. أدلـتـي على هذا الواقع لا تحصى إذ يكفي أن نشير مثلا إلى أن المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين العظيمة التي توحد فيها لأول مرة ولآخر مرة المغرب العربي الكبير من طبرق إلى نهر السينيغال كتب كثيرا بالأمازيغية لكن بالحرف العربي مثل الفرس والأكراد.
إن هذا الزعيم الـفـذ لم يكن رجل الدولة فحسب بل عالما عارفا بعلوم عصره واعيا بهويته الأمازيغية حيث ترجم القرآن إلى الأمازيغية كما وضع معجما عربيا – أمازيغيا هو “كتاب الأسماء” وهو من أقدم المعاجم المعروفة منذ القرن 12 يتكون من 250 مدخلا عربيا كما وضع كتيبات بالأمازيغية لطلابه في “تـينمل” مركز حركته الإصلاحية التي انطلقت منها دولة الموحدين العظيمة.
ولا ينازع أحد في أن ابن تومرت لم يستعمل في كتاباته تلك حرفا واحدا مما يسمى التيفيناغ لسبب بسيط هو أنه كان لا يعرف هذا الحرف بل يجهل وجوده جهلا تاما لا لتقصير من طرفه ولا بسـبب انحيازه للحرف العربي ولكن لأن الحديث عن التيفيناغ لم يظهر إلى الوجود إلا ابتداء من سنة 1830 وهي سنة احتلال الجزائر من طرف فرنسا.
وقد سار على درب ابن تومرت آخرون فظهرت معاجم عربية – أمازيغية في القرنـيـن السابع عشـر والثـامـن عشر وآخرها معجم الأستاذ محمد شفـيـق الصادر عن أكاديمية المملكة المغربية وكلها منجزة بالحرف العربي ولا حديث فيها عن حرف اسمه التيفيناغ.
وقد نذهب إلى أبعد من ذلك، إلى ملوك الأمازيغ الذين حكموا شمال إفريقيا تحت النفوذ الروماني مثل جوبا الأول آخر ملوك نوميديا الشرقية (85 إلى 46 قبل الميلاد) وجوبا الثاني ملك موريطانيا (52 قبل الميلاد إلى 23 بعد الميلاد) فهؤلاء لم يتركوا لنا أي أثر كتابي بالتيفيناغ فما هو المانع الذي كان لدى هؤلاء الملوك قبل الإسلام لاستعمال حرف التيفيناغ حتى لا يدعي أحد بأن القادمين من الشرق العربي هم سبب اختفاء هذا الحرف أو احتجابه.
لقد كان أول من تحدث عن الحرف الأمازيغي هو الأب شارل دوفوكو المعروف بإقامته في أقصى جنوب الجزائر في بدايات القرن العشرين والذي وهب نفسه لنشر الديانة المسيحية لدى الطوارق إلى أن لقي حتفه في عين صالح على يـد بعض أفراد الزاوية السنوسيـة سنة 1916 وجدير بالذكر أن بعض الحروف التي تعرف عليها شارل دوفوكو لم يجدها مكتوبة على الورق أو في كتاب وإنما منقوشة في الصخر ولم يستعمل بشأنها تعريف التيفيناغ وإنما “طاما شاك” وهي لغة الطوارق المنتشرة لديهم وفي نواحي تمبوكتو وشمال شرق بوركينافاصو.
وبعد شارل دوفوكو رفع لواء الدفاع عن حرف التيفيناغ العديد من منظـري الاستعمار الفرنسي مثل لاووس المتوفى بالرباط في 1952 والأب جان باتيست شابو وأندري باصي الذين مزجوا بصفة تحكيمية بين ما اعتبروه حرف التيفيناغ المنحوت على الصخور وبين الحروف الفينيقية ليصطنعوا اصطناعا أبجدية ســـموها التيفيناغ وأقنعوا على الخصوص أمازيــغ القبائل الجزائــرية بأنه هو حرف لغتهم الذي قضى علـــيه اجتياح العرب لشمال إفريقيــا متناسين أن شخصا واحدا اســمه إدريس الأول قدم من الشرق بدون جيش وبدون عتاد يرافقه خادمه الوحــيد راشد ومع ذلــك استطاع تأسيـــس أول دولة تستحق هذا الوصف في شمال إفريقيا بدون إجــتياح ولا جحافل كــما كان يحلــو لمنظري الاستعمار الفرنسي تلقينه لإخواننا الأمازيغ في المدارس.
نعم قدمت إلى المغرب فعلا جحافل عربية تمثلت في قبائل بني هلال وبني سليم لا مغيرة ولا فاتحة لأن الذي استقدمهم إلى المغرب لم يكن سوى أمازيغي وهو عبد المومن الموحدي الزناتي حتى يتغلب بواسطتهم على أبناء عمومته الصنهاجيين إلى درجة أن مؤرخي الحقبة الاستعمارية كثيرا ما تحاملوا على عبد المومن الموحدي رغم محاباتهم للأمازيغ وعلى رأسهم هنري تيراس صاحب الكتاب المشهور في تاريخ المغرب والذي أدان عبد المومن الموحدي إدانة شديدة لكونه استقدم هاتين القبيلتين اللتين عمرتا بعض سهول المغرب.
وقد وجد واضعو التيفيناغ الفرنسيين في الجيل القبائلي الذي زرعوا فيه زرعا كراهية كل ما هو شرقي خير من يحمل مشعل تطوير التيفيناغ والعمل على إقناع الأمازيغ في المغرب العربي الكبير بأنه هو حرف اللغة الأمازيغية وهو ما تلقفه المغاربة كذلك دون تمحيص وخاصة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإلى تلفيق آخر لا قدر الله.
*محامي بهيئة الدار البيضاء