الجدل حول تسمية المغرب الكبير
ما الذي يمكن أن يشغل بال الليبيين والتونسيين والجزائريين والمغاربة والموريتانيين في مفتتح السنة الجديدة؟ أشياء كثيرة بالتأكيد، لكن ليس من الواضح تماما أن التفكير في مراجعة تسمية اتحاد المغرب العربي يبدو واحدا منها.
والسبب بسيط للغاية وهو، أن معظم هؤلاء لا يرون أصلا أن هناك ولو أدنى علامة تدل على أن هناك اتحادا قائما بين دولهم، وبالتالي فليس واردا بالنسبة لهم أن يشغلوا أنفسهم بالتفكير في تسميته الرسمية، فضلا عن اقتراح بديل لها، ووحدها بعض النخب الفكرية والإعلامية هي من تملك ترف فعل ذلك، لكن لأجل أي غاية، وما الهدف الذي قد تسعى إلى تحقيقه؟ ولماذا عاد الجدل الآن بالذات حول ذلك الموضوع القديم الجديد ليطفو مجددا على السطح، ويتصدر بعض المواقع الإخبارية ووسائل التواصل؟.
ربما كانت تصريحات وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في المقابلة التي أجرتها معه قناة “الجزيرة” وبثت الخميس الماضي على “منصة أثير” وراء ذلك مثلما قد يتصور البعض. لكن ما الذي قاله عطاف في تلك المقابلة بالذات؟ هل طعن في عروبة الشمال الافريقي وطالب مثلا بأن تعاد تسمية الاتحاد؟ قطعا لا. كل ما قاله هو أن “حلم المغرب العربي موجود ولن يقضى عليه”. وبغض النظر عن اختلاف المواقف والقراءات حول دوافع مثل ذلك التصريح، فهل كان الأجدى أن يثمن مثل ذلك التأكيد من جانب المسؤول الجزائري، ولو من الناحية المبدئية، ثم يدفع لطرح نقاش مغاربي مفتوح حول السبل الكفيلة بتحويل ذلك الحلم إلى واقع بدل التقاط عبارة واحدة فقط من تلك الجملة وهي، “العربي” وإثارة لغط وجدل بيزنطي عقيم حولها؟.
المغاربة كانوا يعرفون أن السقف الوحيد الذي يمكن أن يجتمعوا تحته هو السقف العربي، من باب الوعي بأنهم ينتمون إلى مجال جغرافي وتاريخي وحضاري واحد هو المجال العربي.14
الثابت أنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها مثل ذلك الأمر، وتثار فيها ما تشبه الزوبعة في فنجان على ذلك النحو، فقد سبق للبعض أن شكك وفي عدة مناسبات في وجود مغرب عربي كبير، إما بحجة أن معظم سكان الشمال الافريقي هم ليسوا من العرب، بل من الأمازيغ، أو تحت ذرائع ومبررات أخرى من قبيل ما ذكره الأستاذ مصطفى القادري مثلا الأحد الماضي لموقع ”هيسبريس” الإخباري من أن “الحاجة إلى تغيير تسمية المغرب العربي يعود إلى حمولتها الأيديولوجية التي جاءت في أربعينيات القرن الماضي، حين وردت في أدبيات ساطع الحصري الذي كان منظرا للقومية العربية، وكان السعي حينها هو إلحاق شمال افريقيا بالفكر القومي العربي”، قبل أن يضيف أن “زوال الفكر القومي يحتم زوال التسميات المرتبطة به، التي لا معنى لها ولا تحتكم لأي أساس جغرافي أو عملي”، على حد تعبيره.
والسؤال هنا ما الغرض من إثارة الشكوك والظنون بين فترة وأخرى حول عروبة الشمال الافريقي؟ ولماذا صارت كلمة «العربي» تستفز البعض وتجعلهم يثورون وينتفضون كل مرة، مقدمين حججا إما عرقية أو جغرافية، حتى إن كانت واهية وضعيفة، فقط لأجل دحضها ومحاولة التخلص منها؟ هل إن القضية الأساسية اليوم لذلك الاتحاد هي قضية لغوية وعرقية بالأساس، كما يحاولون الإيحاء به؟ أم أنها تبقى قضية سياسية بالدرجة الأولى والأخيرة؟.
لنعد قليلا إلى الوراء، فما الذي منع القادة المغاربيين الخمسة في 1989 حين أعلنوا في مراكش عن قيام اتحاد بين دولهم، من أن يطلقوا عليه «اتحاد المغرب الكبير»، أو «الاتحاد المغاربي» وأصروا بالمقابل على أن يكون اسمه اتحاد المغرب العربي؟ هل غابت عنهم كل الملاحظات والانتقادات التي ظهرت لاحقا على تلك التسمية؟ وهل كانوا غير مدركين حينها لوجود أمازيغ في الشمال الافريقي، أو لما قد تحمله تلك العبارة من «حمولة أيديولوجية أو عرقية» مثلما بات البعض يصفها؟ قطعا لا.
لقد كانوا واعين بكل ذلك لكنهم كانوا يعرفون أيضا أن السقف الوحيد الذي يمكن أن يجتمعوا تحته هو السقف العربي. ولم يكن ذلك من قبيل الانحياز العنصري، أو العرقي، أو رغبة في التنكر لباقي مكونات الديمغرافية الأخرى لمنطقتهم، بل فقط من باب الوعي بأنهم ينتمون إلى مجال جغرافي وتاريخي وحضاري واحد هو المجال العربي، ما يمنحهم الفرصة لتأسيس كيان إقليمي يكون منصهرا في ذلك المجال، ومنفتحا على باقي المجالات المتوسطية والافريقية، التي ينتمون إليها. وهم لم يقدموا جديدا حين فعلوا ذلك، فلطالما ارتبطت التصورات والآمال في قيام كيان مغاربي موحد في أذهان الأجيال السابقة، أي تلك التي عاشت الحقبة الاستعمارية، بمكونين أساسيين كان كل واحد منهما يؤدي إلى الآخر، وهما العروبة والإسلام، إذ على النقيض من المشرق العربي فإن مصطلح العروبة كان يقود دائما في المنطقة العربية، وبشكل فوري ومباشر إلى الإسلام، وهذا ما جعله يخرج عن طابعه العرقي واللغوي الضيق، ليكتسب بالتالي بعدا أشمل وأوسع ويصبح بمثابة هوية قومية ودينية في وقت واحد للشمال الافريقي.
وهذا المعنى هو ما عكسه وإلى حد كبير ذلك المقطع الشعري الشهير للعلامة عبد الحميد بن باديس الذي قال فيه: «شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب»، وهو الأمر الذي يسري وبالمثل على باقي الدول المغاربية.
ولعل أكثر من علامة استفهام تطرح هنا حول الغاية من إنكار تلك الحقيقة والسعي إلى تجاهلها من خلال التركيز على عبارة «العربي» والتلويح بالحاجة لاستبدالها بعبارات أخرى فضفاضة وعامة تخلو من أي رمزية، بدعوى أنها تعكس التنوع العرقي واللغوي في المنطقة. فمن المؤكد أن تواتر تلك الحملات وظهورها في بعض الفترات يفتح الباب على أكثر من تأويل.
فما الذي يريده أصحابها بالضبط؟ هل إنهم يرغبون حقا في قيام اتحاد مغاربي بغض النظر عن معارضتهم لتسميته الحالية؟ أم أن كل ما يتطلعون له هو أن يفصل الشمال الافريقي عن المشرق العربي، وأن لا يكون هناك بالتالي وجود لأمة عربية وإسلامية واحدة؟.
إن كثيرين لا يزالون يذكرون وبلا شك تلك الحملة التي ظهرت قبل ثلاث سنوات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تعرف الجهة التي كانت تقف وراءها وعملت في ذلك الوقت على الترويج وبقوة لوسم «لستم عربا»، من خلال إعادة تقسيم وتصنيف الدول العربية على أسس عرقية أخرى، معتبرة أن العرب هم فقط سكان الجزيرة العربية، وأن المغاربيين هم من الأمازيغ.
وبغض النظر إن كان ما يحدث الآن هو استنساخ جديد لتلك الحملة، فإن حالة اليأس والقنوط التي استشرت بفعل استمرار حالة الشلل في الاتحاد المغاربي، جعلت الباب مفتوحا أمام تكرارها. والسبيل الوحيد لوقفها هو أن يطرح الإشكال الحقيقي على الطاولة وهو، ما الذي ينبغي أن يفعله المغاربيون الآن ليحققوا حلمهم؟ وكيف السبيل إلى استبدال منطق العداء والإقصاء وقطع العلاقات الدبلوماسية وتجميدها بمنطق الأخوة والتفاهم والوئام؟ إن البحث عن نقطة انطلاق جديدة سيكون أولى من إثارة جدل بيزنطي قديم.
كاتب وصحافي من تونس