انطباعات عن مونديال قطر
بدعوةٍ كريمةٍ من مغاربةٍ أبرار، وطئت قدماي، مرة ثانية، مطار حمد الدولي، ثم أبهرتني، ونحن في الطريق إلى مقر إقامتنا، الحلة القشيبة التي لبستها الدوحة لاستقبال أضخم حدث رياضي عالمي، تحمّلت قطر الدولة العربية الشقيقة أعباء تنظيمه.
كان التحدّي عظيماً ومحفوفاً بإكراهات وصعوبات وعقبات كثيرة نصبها حاسدو وكارهو كلّ نجاح قد يأتي من الشرق، وكانت غطرسة دول غربية استكثرت على دولة عربية وإسلامية أن يعود لها شرف هذا التنظيم. بل جاء الاستصغار في مرّات عديدة حتى من بعض العرب أنفسهم ممن يجهلون التحدّث باللغة العربية، ويؤمنون إيماناً قاطعاً بأن لا حضارة إلّا حضارة الغرب، وبأنّ الشمس إن لم تشرق من لندن وبرلين وروما ومدريد، فإنّها تشرق عموماً من باريس. لكنّ المسؤولين القطريين آمنوا بقدراتهم، فتوكّلوا على الله، وكسروا عقدة النقص تجاه المستعمر، وضربوا للعرب والمسلمين، ولكلّ الشعوب المستضعفة في الأرض، درساً في الإرادة والإقدام، وذلك حين اشتغلوا في صمتٍ وعزيمةٍ إلى أن حقّقوا المراد، فكان الاندهاش والانبهار لما بلغت دقة التنظيم وروعته منتهاهما، فابيضّت وجوهٌ واسودّت أخرى، وأُلقم الحُسّاد من الغربيين وغيرهم حجراً أحرش حامياً، ولم يجد صحافي فرنسي ما يقوله لزميل له في الأستوديو في باريس سوى أنه رأى في الدوحة المساجد كثيرة. وضحك متهكّماً، وشاركه زملاؤه الضحك، لكنّه كان ضحكاً كعواء الذئاب المهزومة، إذ خرج متكلّفاً متشنّجاً تفوح منه رائحة الهزيمة والإحباط، ولو قدّر لذاك الصحافي البائس أن يكون وحيداً في تلك اللحظة، للطم وجهه حسرة وكمداً.
وأرادت حكمة الله تعالى أن تربط ذاك التنظيم البديع بتألق كروي عربي كبير في مستواه، كي يكتمل العرس البهيج، فكانت للفريق المغربي صولات لم يتوقعها أحد. إذ كان منتهى آمالنا، نحن المغاربة، أن يتخطّى الدور الثاني في مجموعة تسمى مجموعة الموت. وكانت كلّ التخمينات تعطي التأهل بكيفية قطعية للمنتخبين البلجيكي والكرواتي. كيف لا والمنتخب الأول كان في الترتيب الثاني عالمياً وراء البرازيل، بينما الثاني كان وصيف فرنسا بطلة العالم في روسيا سنة 2018. أما الفريقان المغربي والكندي فكانا يعتبران مجرّد ديكور بسيط وحائطين قصيرين يسهل القفز عليهما. والأنكى أنه حتى المدرب الكندي كان، في كل تصريحاته، يتوعد البلجيكيين والكرواتيين، ويتحاشى التحدّث عن الفريق المغربي احتقاراً واستصغاراً، معتبراً إياه فريقاً من الورق المقوى.
وهكذا، انطلق المونديال بإنجازات تاريخية مدهشة، كان أبرزها انتصار السعودية على الأرجنتين، بِمِيسّيها وكلّ أقمارها ونجومها الساطعة، فكانت ضجة مدوّية زعزعت العالم الكروي أيما زعزعة، وجعلت الفرق المسماة كبيرة تعيد ترتيب حساباتها وتستيقظ مذعورة من سبات غطرستها، بعدما تكسّر في غفلة منها أول قرنٍ من قرونها الناطحة، فتناقلت وكالات الأنباء الخبر المفجع بالنسبة للغربيين، وبثته في كل ربوع الدنيا حتى أصبح اسم السعودية يُذكر بإعجاب على كل لسان. وكان من الممكن للفرق العربية والأفريقية أن تتابع مسيرتها في البطولة بثبات واطمئنان، لولا غياب الاحترافية وعدم التركيز وقلة الخبرة. ثم جاءت الضربة الثانية لمّا فازت تونس على فرنسا في سابقة كروية لم تحققها من مستعمراتها القديمة غير السنغال في سيول سنة 2002، فكان النصر الثاني للعرب والأفارقة، وبدأت العُقد تنحلّ واحدةً تلو أخرى.
وجاءت الملحمة المغربية لمّا خرجت كلّ الأندية العربية والأفريقية والآسيوية من دائرة التنافس، ولم يبقَ في حلبة السباق غير جواد عربي أصيل، متحفز بين غابة من جياد جامحة كانت ديناصورات هائجة مستعرة. ولم يكن هذا الجواد اليتيم في نظرها سوى أرنب يؤثث المشهد، كما تؤثث المقبلات مائدة فخمة شهية، غير أنّ كرواتيا، الخصم الأول، أساء التقدير، وانتبه إلى أنّ من كان يعتبره مقبلاً لذيذاً لم يكن في الحقيقة سوى مخدّر أحمر يصيب كلّ من اقترب منه بالدوار، فداخت المربعات الحمر والبيض نفسها وترنّحت، ورسمت شارة الصليب على صدرها حمداً لله في نهاية مقابلةٍ لم يكن فيها لا غالب ولا مغلوب، وإنْ كانت في الحقيقة بالنسبة لها بطعم الهزيمة، لأنّها كانت وصيفة بطل العالم. وفي النزال الثاني، وضع المغاربة جميعهم أيديهم على قلوبهم من شدة القلق والترقب، لأنّ الخصم الثاني لم يكن سوى شياطين بلجيكا الحمر، المصنّفين عالمياً في المرتبة الثانية وراء البرازيل، غير أنّ أولئك المردة المتعجرفين وجدوا من أبطل سحرهم فصفدهم وأدخلهم إلى قماقمهم بصفعتين مدويتين تحت ذهول العالم بأسره. وهنا أخذت الأنظار تنشدّ إلى هذا الفريق الظاهرة، لترى هل ما حققه جاء عن جدارة واستحقاق، أم أنه من تلك الفلتات التي تميز الفرق الأفريقية والآسيوية، حين يحمى وطيسها في بعض المرّات، فتحقق نصراً كبيراً تُردفه بهزائم متتالية. وكان الامتحان الثالث العسير هذه المرّة مع فريق مجيد عتيد، سبق له أن كان بطلاً للعالم. فريق بلد يتنفس مواطنوه عبق كرة القدم، وتنشدّ إلى بطولته في الكلاسيكو أنظار مئات الملايين من المشاهدين عبر الدنيا، فهل ستبقى جرّة المغرب سالمة في هذا اللقاء، أم تنكسر وتتطاير شظاياها في الفضاء؟
كانت المعركة بين بلدين جارين احتل أحدهما الآخر في الماضي، فهل نحن مبالغون إذا خلطنا الرياضة بالسياسة؟ لا أعتقد ذلك. كرة القدم أصبحت اليوم لعبة مملوءة بريح السياسة والتجارة والدسائس والمناورات، فانهزمت إسبانيا هي الأخرى، وما كان لها إلّا أن تنهزم أمام إصرار وصمود أحد عشر كوكباً أحمر، وأصبح من توقّع له أن يكون في ذيل مجموعته هو من يتصدّرها، فوثب إلى دور الربع وثبة الليث الهصور وشباك عرينه عذراء.
وهنا طغت الفرحة العارمة على القلوب، وضربت أمواجها شطآن جميع الدول العربية والإسلامية والأفريقية، وحتى الآسيوية منها، فخرج الناس في تسونامي من البهجة والحبور يتعانقون ويتصافحون، ويهنئ بعضُهم بعضاً وكأنّهم بشّروا بدخول الجنة. وهنا، كان الهدف المنشود في الحقيقة ببلوغ الربع قد تحقّق، غير أنّ المدرب المغربي العبقري، وليد الركراكي، عرف كيف يشحن بالطموح فريقه، ويكسر في أعماقهم عقدة تعظيم الأجنبي. وبعدها جاءت البرتغال ليخرج رونالدو مكفكفاً دمعه، حتى أثار في الناس الشفقة. وهكذا لأول مرة في تاريخ الوطن العربي وأفريقيا، يبلغ أحد فرقها المربع الذهبي.
كل ما يجب التركيز عليه أن قطر، البلد العربي والمسلم الأصيل، قد ربح الرهان، ويا له من رهان عظيم. لقد ألجم أفواه الكاشحين، وفقأ عيون الحاسدين، وأخرس صراخ المُرجفين بتنظيم متقن رائع مذهل، قال عنه رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، إنه أحسن مونديال عبر التاريخ، فأي شرف للعرب وللمسلمين أكبر من هذا الشرف؟
التقت عزيمة القطريين من الشرق بعزيمة المغاربة من الغرب، فكان النصر المبين للمثل العليا وللأخلاق الراقية والقيم الإنسانية الخالدة. ورفع لاعبو المنتخب المغربي راية فلسطين، وخلع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، عباءة النخوة والرجولة العربية على اللاعب ميسّي. وهذا درس عظيم أزجاه الله لنا عبر ضرب المثل في حسن السلوك وفي دقة التنظيم وفي الاستئساد عند التحدّيات، درس أعاد للعرب بعض الثقة في نفوسهم المثقلة بالهزائم … فماذا لو اجتمعنا على كلمة سواء، ووقفنا في كل المجالات وقفة رجل واحد على شاكلة هذه الوقفة الرياضية المذهلة؟ أليس ذلك قميناً بتحرير فلسطين الشهيدة واسترجاع ما فقدناه من سيادةٍ وريادة؟
أحمد المرزوقي