بين الموقف الواعي والانتهازي والعاطفي فراغ فكري وانعزالية عن الواقع


تتعدد المواقف في كل القضايا السياسية والاجتماعية الوطنية، وتتباين حسب عقلية ودرجة فهم أصحابها، فرادى وجماعات، وما يستبطنون من غايات وأهداف ومصالح ذاتية كانت أو موضوعية، بحيث يمكن ترتيبها إلى ثلاثة أصناف: المواقف المبدئية والمواقف العاطفية والمواقف الانتهازية.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    مواقف التنظيمات المغربية، الجادة منها، واستثني، هنا، طبعا مواقف التجمعات الإدارية التي صنعت صنعا بغرف مظلمة، مطبوعة، في غالبيتها، بالانتهازية، أحيانا، وبالعاطفية أحيانا أخرى.

    قد يحرز أصحاب الموقف الانتهازي أو العاطفي بعض الفتات لجماعتهم، أو بعض المكاسب الآنية والضيقة لتنظيمهم، لكنها أبدا لا تقدم شيئا في الحقول السياسية أو الاجتماعية عبر التاريخ في مجال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولم يسبق أن فاز أي تنظيم حامل لموقف عاطفي، أو حقق الأهداف التي يحتج من أجل تحقيقها، ويطالب بها، لأنه في العمق لا يرى أكثر من أنفه وذاته.

    فإذا كان الموقف العاطفي تحركه ميولات لا واعية ونفسية، كثيرا ما تحيد عن المعرفة العلمية بالظواهر والحراكات الاجتماعية-السياسية، فضلا عن الموقف الانتهازي الذي تحركه الذاتية والنفعية والبراغماتية والآنية لمجمل التنظيمات، فيما هما معا يعكسان وعيا متأخرا غير ديمقراطي، ضدا على الموقف المبدئي الواعي الذي يتوخى بلورة المشترك المطلبي الممكن مع وبجانب المواطنين.

    ولتوضيح هذه الإشكالية، لابد من استبيان خصائص تلك المواقف الثلاثة، أعلاه، وإعطاء بعض الأمثلة التاريخية المستقاة من الواقع السياسي والاجتماعي للديناميات الاجتماعية الجديدة، ومدى المواقف المتباينة للتنظيمات السياسية والاجتماعية الراهنة اتجاهها.

    من الملاحظ أن بعض التنظيمات تحمل رموزها من قبعات ورايات وما شابه ذلك، بشكل فج لاستعراض عضلات مفقودة في الأصل، وإرسال رسائل لمن يهمهم الأمر لعل أصحاب الحال ينعمون عليهم بريع، أو التفضل بالجلوس معهم، في إطار حوار صنمي غير منتج من جهة، ومن جهة أخرى برسائل للرأي العام لإيهامه بكونها تشكل أغلبية في المشهد. مثل هذه السلوكيات السلبية، تفقد المسيرات والإشكال النضالية شعبيتها، كما تفقد شعاراتها ومطالبها جماهيريتها، وتساهم في نزيف الانقسامات المتفاقمة، أصلا، في الحقول السياسية والاجتماعية.

    لقد انتبه العقل الجمعي للحراك الشعبي للريف منذ انطلاقه الرسمي يوم 28 أكتوبر 2016 لهذه السلوكيات، حين قررت قيادته على لسان المناضل محمد المجاوي من منبر منصة الحراك، بلباقة، دعوة الحضور للسير وراء لافتات الحراك وحدها، وترديد شعاراته الموحدة، وعدم حمل أي رمز أو لافتة لأي تنظيم. هذا القرار ساهم في قوة حراك الريف ووحدته واستمراره لشهور، إلى أن هجمت عليه آلة القمع المخزنية، واعتقلت قياداته ونشطائه، بمباركة الأحزاب المخزنية التي نعتته بالانفصال والعمالة للخارج، دون دليل. هذا الموقف/القرار يعكس نضج وسمو العقل الجمعي لحراك الريف تماما كما عكسته الشعارات الواقعية خلال أشكاله النضالية.

    نفس الشيء، قام به شباب حركة 20 فبراير سنة 2011. يتجلى ذلك في الوثيقة المطلبية التأسيسية للحركة العشرينية المتسمة بالوضوح والدقة، حيث ابتعدت الحركة، بوعي ونضج عاليين لقيادتها الشبابية، عن كل ما قد يستنفز قوى القمع ويعطيها ” الشرعية ” القانونية للهجوم على الحركة.

    هذان المثالان، يعكسان الموقف المبدئي لحراك الريف ولحركة 20 فبراير، خارج العقلية الانتهازية أو العاطفية السائدة لدى عديد من التنظيمات السياسية والتي ترفع شعارات طفولية، ومطالب لا تنسجم مع تطلعات غالبية المواطنين ولا تأخذ بالاعتبار ميزان القوى.

    في نفس السياق، يعتبر موقف الرفيق محمد بنسعيد أيت إيدر من المشاركة في انتخابات سنة 2011 موقفا سياسيا مبدئيا ناضجا. لقد دعا إلى عدم مقاطعة انتخابات 2011 في المواقع التي يسيرها الحزب الاشتراكي الموحد وفي الدوائر التشريعية التي فاز فيها في الاستحقاقات السابقة لسنة 1997، ومقاطعتها في باقي الدوائر والمواقع الأخرى. كان الرأي الغالب حينها، قد تبنى موقفا عاطفيا وصوت لصالح مقاطعتها كليا. ولأن الطبيعة لا تحب الفراغ، فقد خسر الحزب الاشتراكي الموحد مواقعه في اشتوكة آيت باها وفي بوعرفة ومكناس وجرادة حيث عوض بأحزاب إدارية مخزنية بسبب الموقف العاطفي المتأخر لبعض القيادات التي لم تستوعب ضرورات المرحلة وتعقيداتها.

    - إشهار -

    الموقف الانتهازي كان سيد المواقف اتجاه الديناميات الاجتماعية الجديدة في المغرب. فقد عبأت هذه الديناميات آلاف المنتسبين والمؤيدين لها، ولشهور وأعوام، متجاوزة التنظيمات السياسية والنقابية والحقوقية في قوة التعبئة والالتزام والابداع في الأشكال النضالية، انطلاقا من حركة 20 فبراير ومرورا بحراك الريف وحراك جرادة وحراك الممرضين وطلبة الطب والصيدلة والتنسيقية الوطنية للأساتذة المفروض عليهم التعاقد وغيرها.

    وكثيرا ما نسمع انتقادات لتلك الديناميات الاجتماعية من طرف العديد من المنتمين لتنظيمات كلاسيكية ولها تاريخ، بحيث ينعتونها، تارة، بالانتهازية، لكونها لا تشاركهم في النضالات التي يدعون اليها، أو لأنها تتوقف بمجرد بلوغ أهدافها وتحقيق مطالبها، أو أنها لا تصوت في الانتخابات لصالحها كمقابل الدعم الذي لاقته من طرفهم، أو لأن عناصرها لا يلتحقون بالأحزاب والنقابات والهيئات الحقوقية التاريخية، بل غالبا ترى أصحاب هذه الرأي/الموقف الانتهازي يتسابقون لاستقطاب عناصر تلك الديناميات لتنظيماتهم.

    هذه الاتهامات الجاهزة لا أساس لها من الصحة، وهذا الرأي يعكس في العمق قصر النظر والرؤية الضيقة الانتهازية لأصحابه. كما يغطي هذا الرأي عن فشل أصحابه في تأطير وتعبئة الجماهير. لم يطرح أحد سؤال لماذا تبرز الديناميات المجتمعية كل حين وتبرهن عن قوة خارقة في التعبئة. أوليس ذلك البروز يعكس قلقا من عدم اهتمام التنظيمات بالمطالب العادلة للديناميات الاجتماعية الوطنية والمناطقية والفئوية؟ فالطبيعة لا تحب الفراغ.

    إن بروز التنسيقيات بعديد من القطاعات راجع أساسا لعدم اهتمام هيئات الحوار النقابية بملفات مطلبية لبعض الفئات والملفات. فإهمال مطالب الممرضين، مثلا، مقابل التركيز على مطالب الأطباء أنتج تشكيل تنسيقية الممرضين. وعدم تحمل النقابات لمسؤولياتها في عديد من قضايا ومطالب الفئوية بقطاع التعليم، إن لم نقل التضحية بها مقابل أشياء أخرى، أنتج تشكيل تنسيقيات قوية للمديرين وحاملي الشهادات والزنزانة 10 و وغيرها. كما أن عدم تحمل المسؤولية اتجاه ملف مطلب الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية عوض فرض التعاقد فرضا بالقطاع، وراء تأسيس التنسيقية الوطنية للأساتذة وأطر الدعم المفروض عليهم التعاقد. ليس هذا السبب الوحيد طبعا وراء بروز التنسيقيات بل هناك معضلة بلقنة الحقل النقابي بتأسيس نقابات ذيلية لعديد من الأحزاب.

    استمرت نفس العقلية الانتهازية المتشبعة بثقافة الخوف التوجس، اتجاه ” تنسيقيات أكال للدفاع عن عن حق الساكنة في الأرض والثروة”، ومع ” تنسيقية الوديان الثلاثة” ( واد نون- الساقية الحمراء- واد الذهب) التي تناضل من ضد مصادرة أراضي المواطنين بربوع الوطن عموما، وبالمناطق الصحراوية ومنطقة سوس الكبير التي تتم تحت ذريعة الاستثمار.

    رغم كل ذلك، فأصحاب الرأي الانتهازي يحاربون تلك الديناميات والتنسيقيات بمختلف الأساليب، وبنشر الإشاعات والتهم، وبنشر عبارات كالتفيئ، وبافتقادها للحس الوطني، كما وقع مع كل التنسيقيات، كتنسيقية الأطباء والممرضين والأساتذة وأطر الدعم المفروض عليهم التعاقد، في تلاق تام مع الآلة المخزنية.

    أما بروز حركة 20 فبراير والحراك الشعبي للريف ولجرادة، فراجه لخمول الأحزاب النائمة في سبات عميق، قبل سنة 2011 وانهزامها أمام الوكلاء المحليين للتيربو-ليبرالية العالمية الذي يمثله تيار التحكم، وتيار التمكين وهما وجهان لعملة واحدة.

    العلمي الحروني – عضو الحزب الاشتراكي الموحد

    إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.
    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد