الصحراء وشرعية النزاع: بين كونها “مغربية” و”غربية”
أكتب هذا المقال اليوم بعد بدء وكف لطالما صاحبني وأنا أفكر في الحديث عن الصحراء “الغربية”، أقول لطالما بالنظر إلى تجربتي التي مررت فيها بأشياء كثيرة أفخر أنني كنت جزءا منها، خاصة الجامعية، غير أنني وفي خضم هذا المجرى من الحياة، وأقصد بالخصوص التجربة السياسية والاديولوجية التي عشتها، لم أكن راضيا فيها عن أمور كثيرة. وقد عشت هذا الاختلاف بحرية تامة، لم أتعرض فيه قط لأي تضييق أو إساءة أو تشويه، ولم أحاسب على ذلك أبدا، بل أظنني كنت محط إشادة وتقدير كبيرين من داخل التجربة نفسها، لذلك لا يسعني إلا أن أبلغ سلامي إلى كل من شاركني تلك اللحظات والأفكار. طبعا لم أكن ممن خاضوا مسارا طويلا في التجربة، ولم أكن ممن تقلدوا المهام أو من أولئك المناصرين الراديكاليين، لكنني أعتقد أنني كنت واحدا من أولئك الذين تبنوها وقدموا إليها ما تحتاجه من المعرفة والتكوين، وقد تربيت فيها على قيم كثيرة، وأخذت منها أمورا شكلت بالنسبة لي الزاد العملي في فهم المجتمع ومجرياته.
بالرغم من هذا كله، كانت هناك أشياء كثيرة لم تكن ترضيني والجميع يعرفها، فقد كنت أصـرح بها ولم يشكل ذلك قط أي مشكل لي أو لغيري، بل بالعكس، كانت أمور مثل هذه تدبر بحرية وديموقراطية، وباختلاف يبعث على المسؤولية والارتياح، والاطمئنان لواقع التجربة وما تدافع عنه. لكن أمرا واحدا في هذا الخضــم، ظل حبيس الداخل ولم أبح به أبدا، ليس خوفا أو عجزا لوجود عائق أو مانع، بل لأنه لم يكن أمرا محددا لمبادئ التجربة وأسسها، كما أنه لم يكن أمرا مثارا فيها. لنقل أنه كان مجرد مخرج من مخرجات فكر التجربة، استنادا إليه يمكن الانتهاء إلى موقف من الموضـوع الذي نعالجه، وفي هذا يعمل القياس، ويمكن لكل منا انطلاقا من استدلالاته أن ينتهي إلى طرح مغاير دون أن يكون ذلك تحريفا لفكر التجربة أو تغليطا لقناعاتها، وعليه فالتعبير عن موقف منه لم يكن شرطا للتواجد فيها والانتماء إليها. كما أنني اخترت الصـمت مضطرا، لأنني في الحقيقة لم أكن أتوفر على الحجج الكافية لتعزيز موقفي والدفاع عنه، رغم ما كان يظهر لي من ضـعف الموقف الآخر، لذلك آثرت تجاوزه بالرغم من أن أرقه لم يفارقني. اليوم غير الأمس، فقد راكمت ما يكفيني، وأجد نفسي قادرا على الخوض في الموضوع والدفاع عما أنا مقتنع به.
أشرت إلى التجربة في هذا المنطلق، لكي أرسم صورة عن الموقف الذي أتبناه وكيف راكمته، فضلا عن أنني أعبر عنه وأنا ممثل لنفسي لا أنتمي ايديولوجيا أو سياسيا لأحد، منسلخا من أي إحراجات أو إلزامات والتزامات، فلست ألزم به أحدا أو أحرجه أو أعبر باسمه، أنا الآن مجرد مواطن مغربي أشغل منصب مدرس فلسفة، لا مصالح ولا نوايا لي، ولست أهاجم أحدا، ولا أتنكر للماضي الذي نشأت عليه. أحترم التجربة وأقدرها، غير أنني الآن وهذا ليس تنكرا أو هروبا، لم أعد جزءا منها، بمبرر موضوعي أولا وبرغبة ذاتية ثانيا، لكنني كما قلت لست أتنكر لها، فقط أن شروطي الآن غير شروط الأمس، ولكل مرحلة جندها.
بعد هذا كله لا يسعني إلا الشروع في مقاربة الموضوع، وطرح وجهة النظر التي أدافع عنها، وأنطلق في هذا الصدد من افتراض مفاده أن الصحراء ليست “مغربية”، ولننظر في الحجج المدافعة عنه؛ أي ما إذا كان لها ما يبررها أم لا؟ ما يعني أن عملنا سيبنى على برهان بالخلف، فإما أن ننتهي إلى تأكيد الافتراض أو تكذيبه.
بداية سنطلق من الحجة القائلة، أن ما يجعل الصحراء “غير مغربية”، هي خصـوصـية الواقع الصحراوي الذي يتميز أرضـا وثقافة ولغة وشعبا، عن أرض “الشمال” المتاخمة لها، إن اعتبرنا ما يعد من “طنجة” إلى “طرفاية”، أرضا “شمالا” بالنسبة لما يعرف بالصحراء الغربية”، تلك القابعة في غرب شمال إفريقيا، التي هي جنوبا بالنسبة للضفة الأخرى أيضا. هذا المعطى التضاريسي سنعود إليه فيما بعد، ونحن ننظر في كل تفصيل على حدة.
لنطرح السؤال التالي، ما المقصود بالشعب؟ بعيدا عن التعريفات العربية القديمة التي تجعله ذا بعد كمي أكبر من العائلة والقبيلة، فإن التعريفات السوسيولوجية وخاصة الألمانية منها، تحدده باعتباره إطارا بشـريا يضم مجموعة من الناس تربطهم روابطا جغرافية وثقافية، وربما قومية وعرقية وأيضـا إثنية ولغوية، ويعد هذا التعريف من بين المبررات التي تستند إليها “جبهة البوليساريو” ومن يساندها في الدفاع عن طرحها. الاسئلة التي تطرح نفسها هاهنا، هل فعلا المجتمع الصحراوي هو شعب بالمعنى العام والخاص؟ وهل تجتمع فيه هذه الخصائص؟ وإن كان كذلك فمتى صار شعبا؟
الإجابة عنها ستقربنا لا محال مما نحن ماضـون فيه، وأقول في هذا الصدد أن المجتمع الصحراوي في أصله هو عبارة عن مجتمعات متفرقة، أو لنقل بعبارة ديقية هو مجموعة من القبائل الممتدة عبر الصحراء، لا تربط بينها إلا علاقات مصاهرة أو تجارة وفي أسـوء الحالات معارك. مجموعات جاءت إلى هذه الأرض ترحالا، في إطار ما يعرف بالمجموعات البشرية الرحالة أو هروبا من مواقع الحرب أو النزاع والعنصـرية… وبذلك فهي مجموعات نازحة ولاجئة. بهذا المعنى فالصحراء على الأقل الموسومة منها ب”الغربية”، لم يكن لها أبدا شعبا أو نظاما موحدا، اللهم فقط تلك الممارسات التدبيرية القبلية القديمة التي ينعتها “ماكس فيبر” بآليات تدبير “الأمس الأزلي”. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، إلى من تعود هذه الأحياز الجغرافية الصحراوية؟ هل للذي أقام فيها قبل دخول الاستعمار الإســــباني؟ أم إلى القبائل التي تعاقبت على ذات الأحياز الجغرافية؟ ثم ما هي أصـول كل هذه القبائل؟ هل هي عربية أم أمازيغية؟ أم من جنوب إفريقيا؟ إن كانت الأخيرة فالأرض ليست لها إذن، وإن كانت عربية فالأمر كذلك ينطبق عليها، وإن كانت أمازيغية فالامتداد الجغرافي هاهنا يغيب فيه “الشمال” و”الجنوب”.
ثم لننظر إلى الانسـان الصحراوي الذي يقطن هذا المكان، هل علاقته بالأرض الصحراوية التي ينتمي إليها، كانت مرتبطة بالحيز الذي يحده نظره ومآربه أم بالصحراء “الغربية” ككل؟ أم نحو ما هو أوسع منها، نسبة إلى مخياله الذي يجعل الصحراء مجهولا كبيرا لا حدود له، ومنه فهي كلها أرض له، يمكنه أن يحل بأي حيز شـاء ولا يمكنه أن يمتلكها أبدا؟ بالمعنى الأول الحيز هاهنا ارتبط بالاستقرار العائلي الذي تحول إلى استقرار قبلي، فأضحى بذلك الحيز الصغير الموطن الضيق من الموطن الكبير الذي هو الصحراء، وبالمعنى الثاني فهو أمر غير قائم بناء على ما أشرنا إليه سالفا، أما بالمعنى الثالث فذلك أمر مبرر ومنطقي، باعتبار الانسان الصحراوي كما ذكرنا في المعنى الأول، يرى الصحراء كلها موطنه، نظرا للارتباط الثقافي بينه وبين الصحراء. بهذا المعنى فالحدود السياسية عند هذا النوع الانساني ترتفع وتنتفي، بحكم أنه إنسان له انتماء ثقافي لا تحده إلا الصحراء، ما يجعل منه إما رحالة أو مواطنا للصحراء الشاسعة، الأمر الذي يجعل دعوى الصحراء “الغربية” تتهاوى وتتهافت، لكونها تصنع حدودا مجتزأة من وطن الصحراء الكبير الذي لا حدود سـيـاسـيـة له. ومنه فالقول بأن الانسان الصحراوي المقيم بالصحراء “الغربية” ينتمي إلى شعب يحد هذا البعد الجغرافي، أمر لا أساس له من الصحة، نظرا للحجج التي عرضناها سابقا، وبالتالي فالصحراويون ليسوا شعبا لا بالمعنى العام ولا بالمعنى الخاص، اللهم إذا كنا سنتحدث مجازا عن شـعب الصحراء من الناحية الثقافية، فذاك أمر ممكن، لأن الصحراء المقصودة هاهنا لا غربية ولا شرقية، بل هي تلك الأرض الممتدة المشكلة من الكثبان الرملية، ولهذا المكان أهله وسكانه المتناثرين الذين لا حدود في مخيالهم إلا الرمال.
هذا فيما يتعلق بالسؤال الأول، أم بخصوص الثاني، وبناء على ما سبق، فإن الخصائص المتحدث عنها هاهنا، لا تتوفر جميعها في المجموعات الصحراوية؛ أي الشعب بمعناه العضـوي، فقط إن نحن استثنينا استقرارهم على نفس تضاريس البعد الجغرافي والقومي؛ أي الانتماء الثقافي وإلى حد ما اللغوي؛ حسـاني/أمازيغي، لكن في ارتباط بالحيز الصغير الذي تنتمي إليه كل مجموعة. ما يفيد أن الصحراوي المقيم في الصحراء “الغربية”، لم يفكر أبدا في إقامة مجتمع واحد له ما يربطه عضويا وسياسيا وآثر أن يظل على حاله، وهو ما يدعونا للتساؤل، لماذا لم تؤسس المجموعات الصحراوية إطارا سياسيا يعبر عن وطنيتها وشعبها من قبل، مثلما تدعيه الآن وتطالب به، خلافا لضـفة “الشمال” التي كانت على الدوام محطة لتعاقب أشكال حكم متعددة؟ الجواب كالتالي، لأن أرض “الجنوب” لطالما كانت تابعة لشكل حكم الشمال” القائم على البيعة والمناصرة للمركز، ومنه فالولاء هاهنا كان من المواطن الصحراوي المنسلخ من أي التزام أو انتماء سياسي، نحو سدة الحكم التي في المركز، لذلك فولاؤه لطالما كان ذا طابع ديني ل “أمير المؤمنين”، هذه الصفة التي كانت في الإرث التاريخي الإسلامي، تعبر عن الحاكم الأكثر حظوة وتقديرا من أي حاكم آخر، لأنه جمع إلى جانب التدبير الدنيوي التدبير الديني، لذلك كان كل شيء يتم باسم الدين ومباركته ونصرته. وهذا أمر متجذر في الخلافة الاسلامية نفسها، فقد كان الخليفة على الدوام رجل دين ودنيا، ومنه اكتسبت مختلف أنظمة الحكم الاسلامية المتعاقبة مشروعيتها. ربما تعددت أشكالها لكن آليات الحكم والتدبير ظلت كما هي، وهو ما حافظ عليه أيضا نظام الحكم في المغرب الذي شكلت البيعة في كنفه آلية اجتماعية للتصويت ومناصرة الحاكم، وعبرت عنه مختلف مناطق المغرب، بما في ذلك الإنسان الصحراوي الذي كان ينقاد إلى المركز بطواعية وطلائعية، إيمانا منه بنصرة الدين وحب “أمير المؤمنين” الذي كان في مخياله حاكم الأرض الديني والدنيوي. ما يعني أن أهل الصحراء لم يكونوا في نظرتهم لحاكم المركز يفصلون فيه بين الدنيوي والديني، بل كان يرون فيه كل شيء.
هكذا إذن فإن أي استخلاص ليس في محله، فهو يعود إلى عدم استيعاب الخصوصية التي يتمتع بها هذا النمط من الحكم عن باقي أشكال الحكم الأخرى، حيث النظام في كنفه لا يقوم على نفس أسس تدبير الدولة بمعناها الحديث، بل على آلية المبايعة التي كان بفضلها المركز السلطاني يضمن استمراريته ونفوذه على الهوامش المستقلة عنه ذاتيا، وعلى هذا الأساس سمي نظاما مخزنيا، الولاء فيه كان على الدوام دينيا وروحيا وأضحى مع مرور الزمن تاريخيا، وهو كذلك في طابعه الشمولي، لكنه نظام تميز أيضا بطابعه المتجزئ على المستوى الجغرافي والاثني والثقافي، حيث أن الانتماء الروحي للأرض والارتباط الشديد بالمجال الجغرافي الضيق، جعل مناطق المغرب تتمتع عبر تاريخها باستقلال سياسي وثقافي مازالت سماته إلى اليوم متبدية في الجانب الثقافي، ولعل هذا ما يفسر تميز أهالي المغرب بطابع الصمود والمقاومة أمام الغزاة، ويفسر أيضا مدى طبيعة هذا العقد الاجتماعي القائم على طرفين، أو بتعبير آخر “البيعة المغربية” التي نسجت بين الأسرة الحاكمة الممثلة لإمارة المؤمنين وأهالي المناطق الموالية لها.
لذلك كانت الأمور الدنيوية تدبر بدرجات مختلفة وبشكل مستقل عن المركز، دون أن يكون لذلك أثر سياسي، ففي الصحراء مثلا كانت الأمور مستقلة تماما من الناحية الاجتماعية، نظرا لبعدها عن المركز وبفضل ممارساتها الاجتماعية التي جعلتها عبارة عن مجموعات بشـرية مهملة لا وجود لها من الناحية المدنية، وبالتالي كانت هذه المجموعات أقرب إلى الاجتماع العائلي منها إلى السياسي، تدبر واقعها بآليات قديمة، كبير العائلة من يعود إليه كل شيء، ما يعني أن المجموعات الصحراوية فاقدة لشروط الشعب العضوي الموحد والقابل للتوحيد. علاوة على هذا، وبناء على الواقع السياسي الخفي الذي كان يدبر أمرهم؛ أي نظام حكم المركز، فإن المجموعات الصحراوية عاشت بلا أفق سياسي أو أي حلم من هذا الجانب، لذلك ظلت حبيسة ثقافة الصحراء والحيز الجغرافي الذي تنتمي إليه. مجموعات قامت على أرض قاحلة وعرة “لا فائدة منها” آنذاك طبعا، وبالتالي فغياب هذا المطمح السـياسـي أو الطمع من جانب المواطن الصحراوي المنتمي للصحراء “الغربية”، يفيد أنه كان مكتفيا بواقعه المحلي، وهو ما يقوض مرة أخرى فكرة الشعب لدى هذه المجموعات البشرية.
الاجابة عن السؤال الثالث يمكننا في الحقيقة أن نعفو أنفسنا منها إن شئنا، بحكم أننا انتهينا في السؤال الأول والثاني إلى أن المواطن الصحراوي لا تجمعه إلى بعضه البعض أي رابطة يمكن تسميتها شعبا، اللهم تعبير الأهل فقط، كتعبير وجداني وعاطفي تجاه الروابط الثقافية، يوحد سكان تضاريس الصحراء. غير أننا مع ذلك سنجرب طريقا آخر حتى نضع جميع الاحتمالات أمامنا، وحتى يكون دفاعنا عن موقفنا مبنيا بطريقة حجية دقيقة، تتملك أساسا صلبا تقف عليه. لذلك لنفترض أن أبناء الصحراء هم عبارة عن شعب، السؤال الذي يطرح نفسه متى صاروا كذلك؟ أي متى أضحى الصحراويون يحددون أنفسهم بصيغة الجمع والتوحيد تحت تعبير الشعب؟
إن شئنا الدقة فقد تم ذلك بعد الاستعمار الإسباني الذي شهدته المنطقة، وبالضبط قبيل استعداده لمغادرة ترابها، الأمر يكاد يكون غريبا وغير مفهوم، أليس كذلك؟ كيف يحدد أهل منطقة ما بأنهم شعب، بناء على الواقع والتاريخ، والأمر لم يحدث إلا في الأمس القريب جدا، وفي ظل واقع سـيـاسـي قائم على الاستعمار؟ بل إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، حينما دخلت إسبانيا إلى الصحراء ماذا وجدت؟ وكيف سهل عليها الأمر هناك، وصعب عليها في شمال “الشمال”؟ وكيف تحتل أرضـا في زمن مبكر من استعمار “الشمال”؟ أين كان الشـعب والحكم قبل الإسبان وأثناءها؟ ولم قبل “البوليســـاريو” لم يقم الصحراويون ببناء وطنهم وتأسيس حكمهم ودولتهم، وإذا كانوا فعلا محتلين من طرف “الشمال”، فلماذا لم يطالبوا باستقلالهم، وقد كان ذلك سهلا عليهم من اليوم، بما أنه لم تكن هناك دولة مركزية مهيمنة؟
جيد جدا، كلها معطيات تفيد إذن أن افتراضـنا ليس له ما يدعمه موضـوعيا، الأمر الذي يجعلنا نفترض أن هناك أياد خفية هي الســــب في بلورة وهم الشعب والدولة والاستقلال لدى مجموعة من الصحراويين، وإن كان هذا لا يعني من جانبنا أنهم ليسوا أهل لذلك، ولكن لأنه لم يكن في مفكرتهم أبدا، كما أنهم لم يكونوا مؤهلين لذلك موضوعيا، بحسب ما أشرنا إليه أعلاه. ما يعني أن الأمر تم بمغرض من المغرضين، شحن الوقع الصحراوي بمجموعة من الأوهام التي أرادت فصل الرابط الثقافي بين “الجنوب” و”الشمال”.
انطلاقا من هذا كله، فادعـاء “الشعب” ليس لـه مـا يبرره، سواء من حيث المعنى أو الواقع والتـاريخ، خصوصا وأن الشعب بمعنـاه الشائع الآن، يتحدد من خلال ارتباطه بالمدنيـة والحضـارة، والقدرة على العيش المشترك، وقبول الاختلاف والتنوع الـذي مـن شـأنه إحـداث التعاون والتضامن، وهـو مـا يمكـن تلمسـه الآن فـي مـدن الصحراء، ك”العيـون” و”الداخلـة” اللذان باتا مدينتين بمعنى الكلمة، يتمتعان بالانفتاح والتعـدد، فضلا عن واقع المدنيـة والحضـارة اللذان اكتسباهما بفضل الدولة، وهـو مـا افتقدا إليه فـي غيابها. هكذا نصـل مـن جـديـد إلى أن دعـوى الشـعب متهافتة ومعهـا يتهافـت جـزء كبيـر مـن فـكـرة المنطلق، كـون الصحراء”ليسـت مغربية”.
انتهاء عند ما سبق، فالانسان المقيم بالصحراء “الغربية”، لم يكن يجتمع إلى بعضه البعض في إطـار مـا نسميه الشعب، لافتقاده إلى كـل المعطيات التي تجعله كـذلك كمـا أسـلفنا، فـأرض الصحراء كانـت علـى الـدوام موطنـا بـالمعنى الوجداني لا السياسـي فـي مخيال الصحراويين، وهـذا المخيـال الذي يغذيـه بعـد النظـر كـمـا هـو حـال البحر، يجعل الصحراء وطنا شاسعـا بـلا تـخـوم، ومنه فهـو ليس وطنـا سياسيا، بل وطنـا ثقافيا يسـري فـي العواطف والمشـاعر. مـن ثـم فالصحراويون المقصودون هاهنا، هـم ليسـوا شعبا لا بالمعنى الاجتماعي ولا السياسي، هـم فـي حقيقتهم، وهـذا ليس تنقيصا منهم أو تحقيـرا لهـم، مجتمع قبائـل يشتركون في ثقافة الصحراء لا أقل ولا أكثر، ولطالما كانوا فخورين بذلك، كأبناء “بنـي كيـل” الـذين هم مطبعـين مـع ثقافـة الرعي والترحال ومطمئنين لها، كمـا أبنـاء “الأطلس المتوسط” الذين يسكنون الجبـال رغم برودتهـا وقساوتها، وقس عليـه أمثلة كثيرة محليا ودوليا، كشعب الاسكيمو (الاستعمال الاجرائي الوجداني) الـذي يـوثر واقـع القطـب الشمالي على أي أرض أخرى، وهذا ليس عيبا أو نقصـا فيـه، بل هو الارتباط بالمكان. بعد هذا الحـديث المطـول عـن حجـة الشـعـب التـي أظنني استنفذت إمكاناتها، لا يسعني الآن إلا المـرور إلى حجة اللغة والثقافة والأرض، لأرى هل هناك فعلا خصوصية أم لا؟
إن القول بأن خصـوصـية الصحراء مستمدة من اللغة، أمر لا معنى له في الحقيقة، وأظنه أمرا مغالطا للتاريخ والواقع وسأثبت ذلك، لأن المجتمع الصحراوي في حقيقته لا يمتلك لغة، بل فقط مجرد لهجة يمتزج فيها اللفظ العربي باللفظ الأمازيغي، ضمن مركب معبر عنه باللكنة الإفريقية، فكيف إذن تكون للمكان خصوصيته اللغوية، وهي مجرد مركب لغوي مشكل من مكونات لغوية قائمة الذات؟ وحتى تتضح الفكرة جيدا، لنقارب الأمر من جانب “الشمال”.
إن نحن تأملنا ضفة “الشمال”، سنجد أنها تتمتع بخصـوصـيات متعددة لغوية ولهجية ولكنية، يتداخل فيها الأمازيغي بالعربي واليهودي و”المورسكي”، فضـلا عن اللكنة المنتجة من عملية التداخل هاته ومحاولة النطق بلســــان الآخر، كحال الأمازيغي وهو ينطق بالعربية، فضلا عن اللكنات واللهجات المتأثرة بالإرث اليهودي أو تلك الأمازيغية المتأثرة بالإرث العربي أو المتأثرة بالإرث الإفريقي، كحال مناطق جنوب “الشـمال”، “زاكورة” وما يجاورها مثلا، أو منطقة “تافيلالت” التي يختلط فيها اليهودي بالأمازيغي والعربي والإفريقي، أو اللكنة “الموريسكية” اللاهجة بالعربية، كحال مناطق شـمال “الشمال”. أضف إلى هذا، ذلك الترحال الذي عرفته القبائل القاطنة في “الشمال” بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، أو تلك التي قدمت من الصحراء وجنوبها أو من المشرق وأرووبا، فكونت بذلك مركبا لغويا وجينيا متمتعا بالتنوع والاختلاط، حيث تجد في شمال “الشمال” مثلا أغلب الناس بيض، لكن فيهم أناس سمر، في مقابل ذلك تجد أغلب أفراد “الجنوب” سمر، لكن فيهم من هم بيض، وقس عليه في كل مناطق “الشمال”. وهذا أمر ينسحب كذلك على الصحراء “الغربية” التي تتمتع هي الأخرى بنفس خصائص “الشمال” سواء على مستوى اللهجة أو الثقافة أو سحنات أهلها. ولنأخذ “الشمال” و”الجنوب” على أنهما أرض واحدة ممتدة سياسيا، ستجد أن هناك عملية تدرج في اللهجة، مثلا إن أنت أخذت منطقة شمال “الشمال”، ستجد أن ما يعرف بجهة “طنجة تطوان الحسيمة” لهجتها متدرجة فضلا عن لغتها الأمازيغية الريفية، التي امتدت هي الأخرى بين التداول والتأثر، فلو أنت قارنت بين لهجة “طنجة-تطوان” وبين “القصـر الكبير” أو بين “وزان” وما يجاورها، لوجدت اختلافا كبيرا، يتراوح بين شــدة اللهجة وخفتها، ف”طنجة” مثلا لهجتها الشمالية شديدة جدا، بما أنها في عمق “الشمال” وليس هناك ما يحدها، لكن إن أنت اتجهت نحو مدينة “وزان”، ستجد لهجة جبلية مخففة، بالمقارنة مع منطقة “مسـارة” مثلا، لأنها قريبة من منطقة “الغرب” على ضفاف “جرف الملحة” و “عين دفالي”، وإن أنت حللت ب”القصر الكبير” ستجد لهجة مغايرة جدا ل”العرائش” وأكثر حدة من “تطوان” لأنها قريبة من “ســوق الأربعاء”، هذه الخفة هي توطئة لمناطق وسط ستتغير فيها اللهجة إلى أخرى، كذلك الحال مع “الجنوب”. فعمق اللكنة “الحسانية” يقل وأنت صــاعد أو نازل نحو “كلميم” و “تزنيت” رغم وحدة الثقافة واللباس والأكل والقيم، كذلك ناحية “المحبس” حيث تميل اللكنة إلى مناطق الغرب القريبة للهجة الجزائرية، والتي تتشابه إلى حد ما مع لكنة الشرق المغربية المتراوحة بين “بوعرفة” و”وجدة”.
الفائدة من هذا السرد أن مناطق “الجنوب” و”الشـمال”، لطالما كانت متأثرة ببعضـها البعض أولا لغياب سلطة مهيمنة، وثانيا لأنهم كانوا يعتبرونها أرضا واحدة، خاصة وأن الحكم السياسي بهذه المنطقة، لطالما كان مسيطرا عليها. ويمكن للمرء أن يراجع تاريخ الدول المتعاقبة على المغرب ليتأكد من ذلك، حتى القادم منها جنوبا لم يوطد حكمه إلا في الشمال، هذا فضلا عن وجود لهجة عامة بين كل هذه المناطق، نلمسها في كثير من الكلمات والتعبيرات. هكذا إذن، فالتقارب والتداخل اللهجي واللكني، يحيلنا إلى الثقافي بشكله العام، الذي يثبت هو الآخر أن هناك مشتركا ثقافيا عاما متدرجا، نلمسه في الأكل واللباس والغناء والحكاية والنكت والأمثلة الشعبية والدين والخرافة… والارتباط بالمكان وتاريخه وأســـــــاطيره، وثقافة التنوع والتعدد وقبول الآخر، والقدرة على التعايش والصبر والصمود وتقدير الذات، وإتقان اللغات واكتسابها، وعلى مستوى العيوب أيضا. وهو ما يتضح بشكل جلي من خلال التدرج الثقافي القائم بين الضفتين، بحيث إذا أخذنا مثلا المنطقة الجنوبية للضفة “الشمالية” سنجد أنها تتشابه مع الضفة “الجنوبية” في كل العناصر الثقافية التي سبق أن ذكرناها سواء من حيث اللباس والأكل أو درجات الانغلاق والمحافظة والانفتاح…. وهذا أمر يمكن قياسه على كل عناصر مناطق الضفتين، وهو حال مناطق شمال إفريقيا ككل، وحتى جزر الكناري وجنوب البحر الأبيض المتوسط إن شئنا التعميم، لكل منها تدرجها ومشتركها وخصوصياتها. والضفتين بشكل عام لهما أيضا مشتركهما وتدرجهما، لا يقتسمه معهما إلى حد ما في مستويات معينة إلا شمال موريتانيا وغرب الجزائر، والرواسب الإفريقية كمالي…
انطلاقا من هذا الفهم، فإن أي مقاربة للأرض يتوجب أن تتناولها بناء على استحضار هذا المشترك بالاضافة إلى معطى التضاريس والجغرافيا، وقياس المواقع والاتجاهات. ما يعني أن القول ب”الشمال” و”الجنوب” في حقيقته تصنيف يعصف بمناطق عدة ويقصيها، كما أنه لا يعكس حقيقة الأرض، لأن واقع الخريطة القائم على الطول، يفترض أن يتم التعامل مع الأرض بناء على هذا المستوى، لأننا في حقيقة الأمر أمام ثلاثة مناطق كبرى وليس إثنتين، الشمال الذي يمتد من “طنجة” إلى تخوم “سـطات”، ومن بداية “الرحامنة نحو تخوم “العيون” ومنها إلى حدود “الكويرة”، ويمكنك داخل هذا التقسيم أن تحدث تقسيمات أخرى، بحيث تضعها على الشكل التالي: المناطق البحرية في جهة، والجبلية في جهة أخرى، ثم تلك التي تقع على السهول المنبسطة أو المرتفعة منها، أو شبه الصحراوية والصحراوية، والقريبة من حدود الدول، والتي تقع في الوسط، لنحصـل في النهاية على ما يعبر عن واقع المناطق في الضفتين ومدى تنوعه وتعدده. بحسب هذا إذن، لا تكون الصحراء “الغربية” في حقيقتها إلا جزءا لا يتجزأ من مناطق التدرج ومن أرض الاشتراك، كما أنها أجزاء من أقسام عدة.
إلى هذا أنتهي فيما يتعلق بهذه الحجة، التي بينا خلالها أن النسيج اللغوي والثقافي والجغرافي، يجعل الصحراء الغربية ضمن شبكة لا يمكن فصلها عنها، تشكل بالنسبة لبعضها البعض تاريخا وامتدادا وهوية، تأثرت بفعل التلاقح والترابط والتنقل والترحال والاندماج والتزاوج… إلى درجة يمكننا فيها القول أن اكتمال “الشمال” لا يمكن أن يتم إلا بوجود “الجنوب” والعكس صحيح، بما أن مناطق الضفتين الواحد منها يكمل الآخر ويعبر عنه ويمهد له، وهذا أمر لم يتشكل الآن، بل هو نتاج مسار تاريخي طويل الأمد، تشكل بفضل العوامل التي أشرنا إليها أعلاه. الأمر الذي يجعل عملية الفصـل بيـن مـنـاطـق الضـفـتين فعلا تعسفيا وقصـريـا.
بعد الذي تقدم، سننتقل الآن نحو دعوى أخرى من دعاوى ادعاء استقلالية الصحراء، وهي أحقية الشعوب في تقرير مصيرها التي ارتبطت خاصة بحركات التحرر الوطني، للنظر في شرعيتها وأحقيتها من عدمها، علما أن جزءا من هذه الدعاوى سبق أن قوضـناه، وهو كون مفهوم الشعب لا يمكن اعتماده أو توصيف مجموعة بشرية به، دون توفر مجموعة من الشروط، وهذا أمر بينا تهافته أعلاه، والباقي منه سننظر فيه ضمن السطور القادمة.
إن القول بتقرير المصير كما هو معلوم، ينبني على مبادئ أساسية، تتعلق بالاضطهاد أو الميز العنصري أو الاستعمار، إذ أن وجود قومية ما أو سكان محليون أو أقلية تقبع تحت نير هاته الأساليب الثلاثة أو تحت واحدة منها، يفرض ضرورة التجاوب معها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هاهنا، هل الصحراء “الغربية” ترزح تحت هذا الوضع أو كانت كذلك؟ الجواب لا، لأنه قبل الاستعمار الإسباني لم تكن كذلك، والتاريخ والوقائع يمكن لهما أن يثبتا ذلك، حتى واقع الاستعمار نفسه فقد شهدته الضفتين معا في وقت متقارب جدا ومتداخل، وهذه حجة لوحدها تثبت وحدتهما، ما يعني أن العدو كان خارجيا، وإن مورس أي نوع من الاضطهاد أو الميز على أهل الصحراء، فذاك أمر لم تكن ضفة “الشمال” في منأى عنه، ومسؤوليته تقع على عاتق إسبانيا، ولا دخل لضفة “الشمال” فيه، أولا لأنها كانت تحت نير الاستعمار هي الأخرى، وثانيا لأن العلاقة بينهما كانت ومازالت قائمة على الود والتضامن والتعايش، وحتى بعد خروج الاستعمار الإسباني فلا شيء مما سبق حدث بين الضفتين، سواء كان اضطهادا أو ميزا عنصريا، فما بالك أن يكون استعمارا.
هناك إذن مغالطات كثيرة لابد من كشفها وتوضيحها بشكل هادئ وموضوعي، لذلك فالقول بتقرير المصير، يجانب هاهنا ما تدافع عنه المواثيق الدولية في هذا المستوى، علما أن هذه الأخيرة وهي تدافع عن الحق في تقرير المصير، وجدت صعوبات كثيرة في تنزيله، أبرزها مشكلة تجزئة الدول وتفكيكها إلى دويلات، لأن ذلك من شأنه أن يفقد الدول قوتها وتنوعها وسيادتها واتحادها… كما سينتج بالمقابل كيانات صغيرة تفتقد إلى السلطة الفعلية، الأمر الذي من شأنه أن يعرضها للاستغلال والتوجيه وغياب القرار السيادي، وفي ظله ستتعرض مناطق عدة للتفكك والقلاقل، والتدخل الخارجي عوض التحالف والاتحاد.
لنعد مرة أخرى إلى قضية تقرير المصير، لعلنا نجد فيها ما يبرر طرح “البوليساريو” مادامت مقاربة المواثيق الدولية لا تسند ما تدعيه، وأتوسل في هذا الصدد بالمقارية القومية، باعتبار أن من بين الحجج التي يقدمها دعاة الانفصـال والاستقلال، كونهم قوم صحراوي لهم خصـوصـياتهم الثقافية والتاريخية والاجتماعية واللغوية والمجالية والجغرافية… فضلا عن الروابط العائلية التي تجعلهم قومية قبلية متمايزة عن ضفة “الشمال”، وبالتالي وجب أن يقرروا مصيرهم في هذا الشأن.
أقول في معرض هذا، أن لا أحد يمكنه أن ينكر أن لضفة “الجنوب” خصوصيات معينة، تفصلها عن كثير من المناطق المتواجدة في ضـفة “الشـمال”، لكن هذا ليس مبررا كافيا للدعوة إلى الاستقلال والانفصــال، إذ كما بينا سابقا أن البعد الثقافي واللغوي والاجتماعي والتاريخي وحتى الجغرافي منه، لا ينفصل أبدا عن ضفة “الشمال”، فضلا عن أن القول بهذا يجعل أغلب مناطق “الشمال” مؤهلة للاستقلال، نظرا لذات الخصوصيات، الأمر الذي يجعل دولة المغرب معرضة للتفكك والزوال ككيان دولي تاريخي معروف، لتغدو في النهاية مجرد دويلة صغيرة مهملة، خاصة في ظل إمكاناتها الحالية. كما لا يجب أن ننسى أن الدولة تكون كذلك في تنوعها أيضا، فدولة مثل روسيا وأمريكا مساحاتهما الجغرافية تجمع كل أنواع المجالات الجغرافية والموارد الطبيعية، وعوض أن تطالب مناطقها بالاستقلال أو المضي فيه، اجتمعت في إطار اتحادات وفدراليات، وهو ما مكنها من التوفر على تنوع طبيعي وثقافي واقتصادي، أضحى غنى لها، ومكنها من أن تتحول إلى قوة سياسية وثقافية نظرا لعلاقات التعاون والتضامن القائمة بينها.
علاوة على هذا، إذا كانت دعوى القومية صحيحة، فالمنطق يقول أن “البوليســـــــاريو” لا يجب أن تطالب بالصحراء “الغربية” فقط، وإلا كانت تتنكر لباقي قومها المتواجدين على الأقل في جنوب الجزائر، وشمال موريتانيا، إن لم أقل كلها إلى حدود شمالي مالي، وإلى حدود كلميم المغربية، باعتبارهم جميعا صحراويون، يلبسون نفس الزي، ويعيشون بنفس النمط والعلاقات الاجتماعية، ولهم نفس الموروث الثقافي، وكذلك نفس الاطار اللغوي، ونفس المجال الطبيعي كما تدعي، فكيف كفت فقط عند حدود بعينها؟ بل وكيف تحافظ دول مثل الجزائر وموريتانيا على حدودهما، بالمقابل تأتي “البوليساريو” لتطالب دولة دون غيرها بالاستقلال وتقرير المصير وتحتج عليها بالقومية؟ الأمر الذي يكشف مرة أخرى أن هناك من أشعل فتيل هذا النزاع، وهو من يغذيه ويؤججه لمآرب معينة سنأتي على ذكرها.
هكذا إذن تكون مسألة القومية هي الأخرى لا أساس لها من الصحة ولا شرعية لها في الدفاع عن أطروحة “البوليساريو” ومن يسندهم للأسباب التي ذكرناها، ومنه تكون دعوى تقرير المصير قد استنفذت خيارين في الدفاع عن نفسها، وقد فشلت إلى حد الآن في ذلك، ولم يتبقى أمامها سـوى خيار واحد أن “البوليساريو” حركة تحرر وطني. في هذا الصدد إذن ستكون المقاربة الماركسية اللينينية، هي الدافع والاطار النظري الايديولوجي الذي يمتح منه دعاة الانفصال والاستقلال، لأنها ارتبطت بشكل كبير بهذا المرجع الايديولوجي. لذلك سنعمل مرة أخرى على عرض حجج هذا الخيار لنتبين من أمرها، وهو ما يدعونا ضـرورة إلى تحديد المقصود بحركة التحرر الوطني حتى نرى ما إذا كانت حركة “البوليساريو” كذلك أم لا؟
تعرف حركة التحرر الوطني، بأنها حركة مقاومة سياسية وعسكرية ضد وجود استعماري أو نظام استبدادي، وكما هو معلوم فقد ارتبطت حركات التحرر بشكل كبير جدا بالايديولوجيا الاشتراكية الشيوعية، باعتبارها إطارا فكريا يقوم على تحرر الانسان من نير العبودية والاستغلال والاضطهاد والاستعمار، لذلك عرف القرن العشرين حركات تحرر عديدة، كل منها ارتبط بإحدى خصوصية التي ذكرناها، لتشكل بذلك شرارة مقاومة شعبية. وحين أقول شعبية فالمقصد أن حركة التحرر الوطني ليست حركة بيروقراطية فوقية صنيعة أو خارجية، بل هي حركة محلية نابعة من عمق الواقع الشعبي الذي تدافع عنه وتحمل همومه، لذلك فهي انعكاس له، بحيث تكون القاعدة المادية لهذه الحركة هي الجماهير، وتكون القيادة في هذا الشأن مجرد تعبير ايديولوجي ومعبر سياسي عن هذه القاعدة، بهذا المعنى لا يمكن الحديث عن حركة تحرر وطني دون أن تكون حركة جماهيرية قاعدية. هاهنا يطرح السؤال التالي، هل حركة “البوليساريو” بهذا المعنى حركة تحرر وطني؟
الجواب عن هذا السؤال طبعا لا يمكن أن يكون إلا بالنفي، لأنها حركة لم تتكون في خضم الصراع الشعبي الذي تدعي تمثيله، بل هي حركة كما يشهد التاريخ والواقع على ذلك، قد تشكلت خارج الصحراء “الغربية” التي تدعي تمثيلها، كما أنها تعبير نقيض عن واقع هادئ، لم يطالب في أي وقت مضى بأي شيء من مطالبها، حتى أنه لم يكن يعي قبل ظهورها أنه كذلك، أي كونه شعب يلزمه التحرر. فضلا عن هذا، فالادعاء بأن “البوليساريو” هي حركة مقاومة ضـد وجود “استعماري مغربي”، أمر لا أساس له من الصحة، للأسباب التي سبق أن فصلنا فيها، لم يبقى أمامنا إذن، سوى أنها حركة مقاومة ضد نظام محلي تعتبره استبداديا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه مرة أخرى، هل المجموعات البشرية التي توجد بالصحراء الغربية” سبق لها أن عبرت عن هذا الطرح؟ أو أبدت مقاومة تجاه المركز أو اشتكت منه؟ الجواب أن التاريخ لا يسـنـد أي شـيء من هذا. إن لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن اعتبار “البوليساريو” حركة مثقفين أدركوا الوضع المزري لواقعهم في مستواه العالم الذي هو غائب عن أهلهم؟ مرة أخرى جوابنا سيكون فيه نفي واعتراض، أولا لأن حركة “البوليســــــاريو” لم تعبر أبدا عن ذلك بكيفية ايديولوجية علمية، تمكنها فعلا من تحليل الواقع بالأدوات العلمية الكفيلة بالتعبير عنه، وثانيا أنها اكتفت فقط بإسقاط تلك القراءات الجاهزة على واقع الصحراء “الغربية”، تلك القراءات التي نجد لها مثيل في روسيا السوفياتية، وهي بالمناسبة ليست استثناء في ذلك، إذ أن الأمر ينطبق على معظم حركات التحرر التي تفجرت في كل أرجاء المجتمعات العربية والمغاربية، وباقي المجتمعات التي تلتقي في كونها متخلفة، وحتى لو كانت حركة “البوليساريو” كذلك؛ أي فعلا حركة ايديولوجية، تعبر عن هموم الواقع تجاه نظام استبدادي، كان المطلوب فيها بما أن أهل الصحراء “الغربية” لم يعبروا ذات يوم عن نوايا الاستقلال والتحرر من النظام المحلي، أن تحمل على عاتقها تبني هموم الشعب الممتد بين ضفتي “الشمال” و”الجنوب” وتعمل على تحرره إلى جانب حركات تحررية أخرى كانت في “الشمال” أيضـا، وهذا أمر لم يحدث. وهو ما يدعونا للتسـاؤل لماذا لم تكن كذلك؟ ولما في كل مرة نتناول هذه الدعوى من جانب ما نصطدم بغياب الضمانات المبررة للموقف المدافع عنه؟
الجواب ببساطة، وهو ما سنختم به مقالنا، أن حركة “البوليساريو” ليست في حقيقتها سوى حركة مصطنعة، حركة بيروقراطية فوقية، تأسست في خضم الصراع الايديولوجي بين القطب الرأسمالي والاشتراكي، بغرض كسـب تحالفات ومواقع نفوذ لصالح القطبين. وبما أن موجة الحركة الاشتراكية القومية كانت قد غزت المجتمعات العربية والمغاربية آنذاك، رغبة في توحيدها ضـمن وطن قومي واحد موالي للطرح الاشتراكي السوفياتي، فقد تم استهداف النظام المغربي الذي كان يعد حليفا للقطب الرأسمالي، بالرغم من أن واقع النخبة المغربية لم يكن كذلك، فقد شهد هو الاخر تأسيس حركات تحررية اشتراكية مدنيا وعسكريا. لذلك فإن زرع حركة في “الجنوب” كان الغرض منه في الحقيقة كسب قوة أخرى في غرب شمال إفريقيا ومحاصرة النظام الرأسمالي المغربي والقضاء عليه، باعتباره نظاما رجعيا حسب الدعاية الاشتراكية.
بهذا المعنى، ليست “البوليساريو” في حقيقتها سوى حركة تعكس طبيعة الخطاب الذي وجدت لأجله، وقد انخرط في خضمها مجموعة من الأفراد، كما هو حال حركات “الشمال” مأخوذين بالايديولوجيا الاشتراكية، وهذا ليس عيبا طبعا، لكن العيب كله أنها ظلت مجرد حركات نخبوية، لم تستطع أن تصل إلى عموم الجماهير، كما أنها لم تعمل بالأدوات العلمية الكفيلة بإدراك كنه الواقع الذي تنتمي إليه. وعليه ففي غياب الموقف العلمي القادر على استيعاب الواقع المادي الحي، وحقيقة الايديولوجيا المتبنية لها، اكتفت أغلبها بترديد ذات القراءات والخطابات الخارجية، وربما تم ذلك تحت تأثير الإملاءات والمحاباة، وربما لعدم قدرتها على إنتاج موقف علمي يعبر عن الواقع والتاريخ، لذلك أخطأت أغلبها في تقدير موقفها من الصحراء، بحيث ناصر البعض منها أطروحة الانفصال، في حين ذهب بعضهم إلى تعليق حكمه وجعل الأمر متروكا لتقرير المصير، إيمانا منه بأحقية الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما زاد الطينة بلة في غیاب موقف داخلي موحد في “الشمال”، نظرا لمجموعة من العوامل التي ذكرتها ونظرا للمشاكل السياسية التي كانت ترزح فيها الدولة المغربية آنذاك.
الآن بعد هذا العرض المطول، تكون حركة “البوليساريو” كما أشرنا سالفا، مجرد حركة صنيعة تبلورت في ظل هذه الظروف؛ أي نتاج صـراع دولي طاحن آنذاك، ومن ثم فهي تفتقد لأي شرعية جماهيرية شعبية كما تدعي، إن نحن حاكمناها من حيث الماضي لا من حيث الحاضر، باعتبار أن القطبية الايديولوجية انتهت كما انتهت مجموعة من الأحلام، وهو ما يدعونا إلى طرح السؤال التالي: لما قضية الصحراء مـازالـت مسـتـمـرة رغم اندثار مبررات تبلورها وصـنـاعـتـهـا؟ الجواب أنه بعد انتهاء القطبية بقيت الأطماع قائمة ونظرا للصـــــــراع الإقليمي الذي تولد عن الصحراء وغيرها، وأخص بالذكر الجزائر والمغرب، تحول الأمر من مشكل إيديولوجي سياسي إلى مشكل سـيـاسـي محض بين الدولتين وإلى مصالح تتطاحن فيما بينها، بين كسب السيادة على شمال إفريقيا، وبين كسـب مصـالح اقتصادية على غرب شمال إفريقيا، والمقصـد هنا الجزائر، لأنها هي من تحتضن ميليشيات “البوليساريو” على أرضها، وتسندهم وتتبني طرحهم. هاهنا يظهر مرة أخرى مشكل السيادة الذي سبق أن ناقشناه، إذ أن القول بتقرير المصير يفتقد لأسس المطلب الذي تنادي به هذه المجموعة البشرية، ما يجعل الأهالي الذين تزعم النيابة عنهم ضحية الاستغلال والتبعية، ويفقد كيانهم السياسي سيادته، لكونه مجرد “دويلة وهمية” لا قوة لها، وهو ما يسهل عملية التحكم فيها، ويجعلها مجرد أداة لكسب المصالح وضربها، هذا إذا لم تكن معبرا لاحتلالها، أو منح القيادة البيروقراطية المستفيدة الأرض لدولة أخرى، لذلك فالخاسـر الأكبر في ظل الواقع القائم هم أولئك المتواجدون في مخيمات تندوف، بخلاف هذا فوجود دول كبيرة لها كيانها وسيادتها يجعل الأمر قائما على الحذر والاحترام، وربما التعاون والتحالف في أحسن الأحوال.
بحسب الذي تقدم يكون استمرار “البوليساريو” رغم زوال طرح الاتحاد القومي الاشتراكي، راجع لنزاع إقليمي ليس إلا، وتعبيرا عن أوهام وأحلام قيادات بيروقراطية همها الاستفادة من الكعكة وتقلد الحكم ليس إلا. وفي هذا الخضم لا يتبقى مما قدمناه سوى موقفنا تجاه موضـوع المقال، أي هل هناك من شرعية لهذا النزاع وهل الصحراء “مغربية” أم “غربية”؟
الجواب واضـح بعد كل الذي قدمته، أن هذا النزاع المفتعل يفتقد كما تتبعنا إلى الشـرعية وإلى كل ما يبرره من ثقافة وجغرافيا وتاريخ …. ومنه فإن موقفنا يذهب مذهب الدعوة إلى نزع فتيل هذا الصراع المفتعل الذي عمر لعقود طويلة، لأن الشيء الوحيد الذي تم جنيه منه أنه ضيع على أصحابه وعلى المنطقة ككل مكاسب عدة، كان من الممكن أن تخدمها وتسهم في ازدهارها، وبذلك فإن تغذية هذا النزاع لن يكون في حقيقته إلا تغذية لوهم ليس إلا. لا الجزائر ستفلح في تأسيس دولة على أرض الصحراء “الغربية” ولا “البوليساريو” ستتمكن من ذلك لافتقادها إلى البعد الجماهيري وإلى القوة السياسية والعسكرية، أيضا لا يمكن زحزحة سيادة المغرب على هذه الأرض، ما يعني بقاء الحال على ما هو عليه، ومن ثم استمرار فزاعة الاستقلال القائمة على الخطاب الدعائي الديماغوجي الذي تلتف حوله الأنظمة لتغطية مشاكلها الحقيقية، بالمقابل ضياع فرصة تشييد واقع مغاربي متحد ومتحالف.
أمام هذا كله وفي غياب شرعية النزاع، أنتهي إلى تفنيذ الافتراض الذي انطلقت منه مؤكدا أن الصحراء هي غربية فعلا من حيث الموقع الجغرافي، لكنها مغربية كذلك من حيث الثقافة والتاريخ والجغرافيا، ولا ينكر ذلك إلا جاحد، وبالتالي فهي ليست مغربية فقط في وجدان مغاربة الشمال والجنوب، بل لأسباب موضوعية أيضا سبق أن فصـلنا فيها. وعليه أكون بهذا الموقف قد عبرت عن قضية من قضايا الوطن الذي أعيش فيه، لا مراوغا ولا مواربا، وأكون بذلك قد أخليت ذمتي. موقف ألزم به نفسـي ولا أشـرك فيه أحدا، ولسـت فيه أعترض على حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولست أعارض حركات التحرر، لكنني فيما يتعلق بهذه القضية لا أجد ما يبرر دعواها.
الكاتب: محمد بنطاهر
طالب باحث في الفلسفة، وأستاذ التعليم الثانوي التأهيلي، لمادة فلسفة.
إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.