تحلية المياه.. وتلويث النزاهة! من يربح من أزمة العطش في المغرب؟

في ظل أزمة المياه التي يعاني منها المغرب، تبرز مشاريع تحلية مياه البحر كحل استراتيجي لضمان الأمن المائي. لكن في العاصمة الاقتصادية للبلاد، الدار البيضاء، تحولت صفقة تحلية المياه إلى قضية تثير الجدل وتكشف عن تداخل خطير بين السلطة والمصالح الاقتصادية. صفقة تُقدَّر قيمتها بنحو 6.5 مليار درهم (650 مليار سنتيم)، أصبحت محط أنظار الرأي العام بعد فوز مجموعة اقتصادية مرتبطة برئيس الحكومة بالمناقصة. هذه الصفقة ليست مجرد مشروع استثماري عادي، بل هي اختبار حقيقي لمبادئ الشفافية ونزاهة الإدارة العامة في مواجهة إغراءات تنازع المصالح.
السلطة والمال: أين تختفي الحدود؟
عندما تتداخل المصالح الشخصية مع المصلحة العامة، تظهر إشكالية تنازع المصالح بشكل جلي. رئيس الحكومة، الذي يُفترض أن يكون حامياً للمصلحة العامة، يجد نفسه في موقف محرج عندما تكون شركته الخاصة هي المستفيد الأكبر من صفقة عمومية بهذا الحجم. هذا الوضع يطرح تساؤلات حول مدى عدالة المنافسة عندما يكون أحد المتنافسين هو نفسه من يضع القواعد ويدير العملية.
رئيس الحكومة دافع عن الصفقة، مؤكداً أن شركته لديها الحق في المشاركة مثل أي شركة أخرى. لكن السؤال الأعمق يبقى: هل يمكن فصل مصالحه الشخصية عن قراراته كرئيس حكومة؟ هذا هو جوهر الإشكالية. في دولة تسعى لتعزيز حكم القانون، يجب أن تكون الحدود بين السلطة والمال واضحة ولا تقبل التأويل.
الدستور والقانون: فجوة بين النص والتطبيق
ينص الفصل 36 من الدستور المغربي على ضرورة وقاية السلطات العمومية من الانحرافات في إبرام الصفقات العمومية. كما أن الفصل 245 من القانون الجنائي يعاقب الموظف العمومي الذي يستغل منصبه لتحقيق مكاسب شخصية. ومع ذلك، يبدو أن هذه النصوص تبقى حبراً على ورق عندما يتعلق الأمر بتطبيقها على أصحاب النفوذ.
رئيس الحكومة، الذي يتمتع بسلطات تشريعية وتنفيذية واسعة، لم يبادر إلى إصدار قانون يجرم تنازع المصالح بشكل واضح وصريح. هذا التردد يُضعف ثقة المواطنين في المؤسسات ويعطي انطباعاً بأن القوانين تُطبَّق بشكل انتقائي، مما يهدد مبدأ المساواة أمام القانون.
دروس من التجارب الدولية: المساءلة أولاً
- إشهار -
في دول أخرى، مثل السويد، أدت مخالفات بسيطة إلى استقالات فورية. على سبيل المثال، وزيرة سويدية اضطرت لتقديم استقالتها بعد استخدامها بطاقة بنزين حكومية لأغراض شخصية. هذا النموذج يُظهر أن المسؤولية يجب أن تكون مقدسة، وأن أي تجاوز، مهما كان صغيراً، يجب أن يُحاسب عليه.
في المقابل، يبدو أن المغرب يعيش حالة من “التساهل القانوني”، حيث تتداخل المصالح الشخصية مع المصلحة العامة دون محاسبة حقيقية. هذا الوضع يُضعف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة ويهدد استقرارها على المدى الطويل.
نحو إصلاح حقيقي: الشفافية والمساءلة
لإعادة بناء الثقة في المؤسسات العمومية، يجب اتخاذ إجراءات جذرية وفعالة:
- تجريم تنازع المصالح: يجب إصدار قانون واضح يعرّف تنازع المصالح ويعاقب عليه بشكل صارم.
- تعزيز الشفافية: يجب أن تكون جميع الصفقات العمومية خاضعة لرقابة صارمة، مع إتاحة المعلومات للجمهور لضمان الشفافية.
- تقوية آليات الرقابة: يجب تعزيز دور المؤسسات الرقابية لضمان محاسبة المسؤولين في حال وجود أي تجاوزات.
- تخليق الحياة العامة: يجب العمل على تعزيز أخلاقيات العمل العمومي من خلال ميثاق أخلاقيات واضح وفعال.
نحو دولة الحق والقانون
قضية صفقة تحلية المياه في الدار البيضاء ليست مجرد حدث عابر، بل هي مرآة تعكس تحديات كبيرة تواجه المغرب في مسيرته نحو بناء دولة الحق والقانون. النقاش حول هذه القضية يجب أن يكون بداية لمراجعة شاملة للنظام العمومي، حيث تكون المسؤولية مصحوبة بالمحاسبة، وتكون المصلحة العامة فوق أي اعتبارات شخصية. فقط من خلال إصلاحات جذرية يمكن تحقيق ذلك.