اقطعوا لسان المهدوي وسنكون بخير


من سلَبَ المجتمع أدوات الدفاع عن نفسه والتدافع لبناء وطنٍ سويٍّ، وفي ظل ضعفٍ وتشكيكٍ في مؤسسات التمثيل الشعبي والرقابة المؤسساتية، يعاني اليوم من مدٍّ شعبوي لا يوفّر أحداً، ولا يراعي مقامات.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    حين جرى الاعتداء على الصحافة ووضع الأصفاد في أيديها، وإجلاس شرطي في عقل كل صحفي، ضمن مسعى السلطة للهيمنة على الخطاب العام، عبر السيطرة على المؤسسات الإعلامية و”إعادة تشكيل الحقيقة”، نبّه عديدون إلى خطر تناسل كثير من الظواهر التي ستهدم أساسات إقامة أي نقاش مجتمعي.

    الآن “تخالطت العرارم”، وصار الكل “صحافيا”، أو يتنازع الأدوار مع الصحافي. بذلك لم يهنأ المسكونون بسطْوة التحكّم في المجال العام براحة البال التي توهّموا أنهم سينعمون بها، كما لم يتركوا الصحافة واقفةً على رجليْها لتقوم بأدوارها، وتمارس وظيفتها في إدارة المفاوضة المجتمعية.

    جزءٌ ممّا يجري في شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام نتيجةٌ لخياراتٍ مسمومة بنزوع الهيمنة، أدت في النهاية إلى الانفلات. سياسات الدولة التي جرّدت المجتمع من أدوات الدفاع عن نفسه بشكل سويّ فتحت طريقاً سيّارا لبروز نماذجَ تعبيرٍ (يحمل لواءَ انفلاتها نشطاء يوجدون في الخارج)، لا تحتاج غير هاتف وأنترنت و”جبهة عريضة”، وتخفّفا من الأخلاق، لقول أي شيء، كثيرٌ منه مفتقدٌ للمصداقية.

    إنّ تآكل الفضاء الديمقراطي الذي يتيح نقاشا عقلانيا يولّد بالنتيجة صعوداً للخطاب الشعبوي غير الخاضع لمعايير مهنية وأخلاقية. وإنّ ما كان يستوجب من الصحفي أسابيع وأشهرا للتحقيق قبل النشر، مرورا بمراحل تحريرية للتدقيق، صار ممكنا قوله بلا حاجة للتثبّت، ودون مراعاةٍ للآثار.

    دون ترتيب هذه القناعة لن يستقيم، في اعتقادي، أي تداولٍ بشأن النقاش العمومي، وفي صلبه الصحافة.

    ما يراه متابعٌ مثلي أنه جرى السماح بتسرّب أعطاب، في السلطة والمجتمع، إلى الصحافة، حتى صار صعباً أن تكون صحافياً: لا أنت معنيٌ بالعِداء للدولة، ولا معنيٌ بتبييض قراراتها. وبعض الإعلام المرتبط بالسلطة كان له قدمُ السّبق لجرّنا نحو الحضيض. وكانت اللعبة واضحة: تعالوا نتلهّى وننغمس في أعطاب المجتمع، لصرْف الأنظار عن أعطاب السلطة والسياسة والاقتصاد…

    هذه الوضعية حشرت الصحافيين في زاوية تُحتّم التموقع، فأصبح بعضهم بوق السلطة لا شُغْل لهم إلا إبراز أعطاب المجتمع، أو عصىً في يد السلطوية تضرب بهم من تشاء. يُقابلهم من يلاحقون أعطاب السلطة و”يقدّسون” المجتمع ولا يتردّدون في زيادة توابل المبالغة. وآخرون، لا لهم في العيرِ ولا النفير، وظيفيون بلا لون ولا طعم ولا رائحة. وصنفٌ يُكابد ليُبقي على بقيّة عقلٍ وسط الضجيج والصخب والإفساد، يحاول الإثبات أنه بالإمكان خدمة المجتمع عبر أداء مهمته بعيداً عن التحيّزات التي تُخرج الصحافيَّ من صحافيته إلى البروباغندا وتجيير الانغلاق، أو تجعله يستغرق في “حالة نضالية” تدوس المعايير المهنية، أو سليباً وسلبياً.

    الصحافي يعمل لنقد السلطة المتغوّلة، التي لا تعود مكترثة باحترام قانون أو التعاقدات. الصحافي ينقد وينتقد الاختلالات في الدولة، لكنه لا ينقض الدولة. هذه وظيفة الشعب لحظة تتشكّل قناعته أنه حان وقت استعادة السلطة لإعادة ترتيب النظام وفق قواعد جديدة، ويسمونها ثورة. ولا شأن للصحافة بهذا إلا مواكبةً ورصداً للتحولات، ومساهمة في ترشيد النقاش.

    يوجد الجميع اليوم في وضعية “تترك الحليمَ حيرانَ”، في ظل المدّ العاتي للنكوص في الممارسة الصحافية، وأيضا في تمثّل السلطة لوظيفتها، والتي إن تعقّلت ستجد الصحافي رفيقاً مزعجاً في الطريق إلى الديمقراطية، لكنه واجبُ الوجود، يحميها من الغول الكامن فيها، مادامت “السلطة المطلقة مفسدةً مطلقة”.

    ما الذي أريد قوله من كل هذا؟

    لننزل من سماء الفكرة المجرّدة إلى أرض الواقع. ولنُثبِّتَ أولا هذه الفكرة: الناس تتعاطف مع من تشعر أنه ينتمي إلى مساحة المجتمع. والمجتمع لا يكون دائما على صواب في مواجهة السلطة، لكن خطأَ المجتمع في التقدير ليس بنفس فداحة خطأِ من يملك السلطة ويمارسها ضد المجتمع.

    ما يجري مع الصحافي حميد المهداوي تحوّل إلى تحامل غير مقبول يتوسّل الإغراق بالمتابعات. يزعج بأسلوبه وطريقته أشخاصا كثيرين، لكنهم يريدون أن يبعثوا برسالة لما يمكن أن يقع لأي صحافي “يفتح فمه” أكثر من اللزوم. ولا بدّ، هنا، أن نذكّر للمرة الألف بأن المغرب ليس مقبرة للموتى، وأن من يتحمل مسؤولية عمومية سيبقى عرضة للانتقاد، وأن أحداً لم يتوسّل أي مسؤول ليصير مسؤولاً. المسؤولية العمومية اختيار، ومن اختار الخدمة العامة يجب أن يكون مستعدا للانتقاد (بأصوله).

    كما لا بدّ من الإشارة إلى أن الصحافة معجونة بماءِ الخطأ. لكن خطأَ الصحافي في أسوأ أحواله لا يكون مدمّرا لدولة، إنما الخطيئة القاتلة أن تتحول الدولة إلى حالة استقواء مسؤولين حكوميين أو إداريين أو مركبات مصالح ضد صحافي وضد المجتمع، لغرضٍ واضح: تعميم الصمت.

    كثيرون يدفعون بأن المهداوي لا يمارس الصحافة. فليكن، ولكل واحدٍ الحق في تقييم ما يشاهده ويسمعه ويقرأه. لكن، لنتقدّم خطوة إلى الأمام ونسأل: أليس من حقّه الكلام كمواطنٍ حتى ولو لم يكن صحافيا، وفق ما يذهب مخالفوه؟.

    - إشهار -

    تكتب عن المهدوي، فيتّصل بك زملاء يطرحون أسئلة معقولةً، لكنّك تجيب بأنّك تدافع عن حقّ أصيل للمواطنين في الكلام، فما بالك بصحافي. وتدْفَع بأننا في حالة اختلال واضح لصالح نزوع هيمنةٍ، تنتج تعديّاً واضحا على المجتمع، فكيف يستقيم أن نستهدف صوتاً في المجتمع؟ ولصالح من؟ ثم إذا ساهمنا جميعا في إسكاته، ألن نكون قد أخرسنا أحد “قارعي الأجراس”؟ وهل سيتحقّق التوازن بإرغام أمثال المهداوي على الصمت، أم نشجّع فئة من المستنفعين على استباحة كل ممكنات التعبير عن غضب مكتوم في جوف المجتمع؟

    أتذكّر كيف اشتغل بعضهم على التهيئة لتكييف التهمة ضد المهداوي، حين كانوا يصفونه بـ”اليوتيوبر”. لم يستوعب كثيرون أسباب هذا التكثيف في “الوسـ(ص)م” بنفي صفة الصحافي عنه، قبل أن تتكلّف النيابة العامة بتدبيج التهمة التي فصلت صفته المهنية عن منشوراته في حسابات شبكات التواصل، ليُحاكم بالقانون الجنائي بدل قانون الصحافة والنشر. ما كان يجري هو عملية إعادة صياغة هوية الصحافي (مثل الوسم بـ”اليوتيوبر”) لتقويض مصداقيته ونزع صفة الشرعية المهنية عنه. وهذا يُحتمل أن يتكرّر مع آخرين.

    جزء من المجتمع لا يدافع عن المهداوي لشخصه، صحافيا أو مواطناً بدون صفة مهنية. يدافع عن حقّ الجميع في التعبير وفي تقاسم المجال العام، ورفض استعمال السلطة للعقاب على خلفية الرأي.

    من حقّ أي كان أن يختلف مع المهداوي وأسلوبه. لكن ليس من حقّ أيّ أحد أن يعمل على إجباره على غلق فمه.

    قد لا يُعجب حتى بعض الصحافيين حين يمارس أسلوبا يصطنع “اصطفافا ماكراً” عن تماهيه مع مدلول عبارة “الشعب”، ورمي من يخالفونه إلى خارج نطاق “الشعب”. شخصيا لا أرى الأمر هكذا، وأؤمن أننا بلد يعيش دينامياته، رغم اختلالها في هذه المرحلة لصالح المتغوّلين في السياسة والإعلام والاقتصاد، لكن بعضها دينامياتٌ حقيقية غير مفبركة، ومن مصلحتنا المشتركة ضمان استمرارها.

    المهدوي ينتمي لديناميات المجتمع، بجيّده وهزيله. يتكلّم من موقع لا ينتمي للسلطة، ولهذا يتعاطف معه الناس.

    أستمع إليه مرات وأجد بعض كلامه شعبوياً، وأردّد في خاطري أنه “شعبويٌ مثابرٌ” (وهل عادت صفته “شعبوي” سُبّة وتنقيصا في زمنٍ يحكم الشعبويون دولا؟). قوّة المهداوي في كونه يحاول بإصرار الإقناع بأنه يتدافع من موقع المجتمع، لهذا يصطدم ويتسبّب في التوتر لكثيرين ينتمون إلى السلطة أو قريبين منها، أو توظّفهم السلطة. بصيغة أخرى، بالدفاع عن المهداوي، يدافع كثيرون عن مساحة المجتمع وحقّه في الكلام، في مواجهة نزوعِ هيمنة معلومة الوجوه والصفات والألقاب.

    قصارى القول

    لربما لم يبقَ مجالٌ، في هذا الحيّز، للتعقيب على من يزعمون في البيانات الدفاع عن الصحافة وهم أول من سحبها إلى القاع، وشكّلوا محاكم تفتيش مهنية، وأدوات تشهير سياسي، وساحات لنصب المشانق المعنوية للمخالفين. هؤلاء معروفون، ومكانهم من التاريخ معروف، ولا يتطوّر بلدٌ بأمثالهم. ما يعنينا حقيقةً أن ننتصر الآن للصحافة المهنية أولا، وحق المجتمع في الكلام، حتى تستوي بلدنا في أرض الديمقراطية، التي تضمن النقاش الآمن، والخالي من الترهيب والرُّهاب.

    إلى ذلك الحين، يكون مفيدا التذكير أنه لتكون صحافياً، معناه أن تكون نبيلا.

    وأن تكون صحافيا، معناه أنّك تعيش كل يومٍ قيامَتك وسِرَاطك وحسابك وحدَك مع ضميرك في كل حرفٍ تكتبه.

    وأن تكون صحافيا، معناه أن تكون مرآتُك صقيلةً، نظيفة من كل لوثات الانحيازات الخادشة لصحفيّتك ونزاهتك.

    وأن تكون صحافيا، معناه أن تكون نبيّا، رسالتك الحقيقةُ للعالمين، دون أن يكون على قوائم قرّائك ومستمعيك مؤمنون وكفار، بل مواطنون تخدمهم بالإخْبار وصِدقِ الرأي.

    وأن تكون صحافيا وتعبّر عن رأيك، في بيئة تتشكّك من الرأي، فأنت “مناضلٌ” دون أن تكون لك لائحة مطالب وشعارات وجمهور، غير مسعى الحريّة.

    أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد