بوعشرين يكتب.. أوراق السجن: La solitude


أول مرة زرت فيها العاصمة الفرنسية باريس، قبل أكثر من 30 سنة، ذهبت إلى المكتبات في الحي اللاتيني الشهير أبحث عن كتب ومؤلفات الكاتب والصحافي François Mauriac، ليس فقط لأنه من حملة جائزة نوبل للآداب، بل لأنه عاش ومات صحافيًا، غطى الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ثم لما وقعت فرنسا في مخالب الاحتلال النازي، زاوج مورياك بين حمل القلم بيد وحمل السلاح بالأخرى، حيث انضم إلى المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني بقيادة الجنيرال دوغول. لم يكن صاحب كلمات فقط، بل كان رجل مواقف أيضًا، وهذا ما يزرع الروح في الجملة والعبارة والمقالة.

وجدتُ كتابًا لمورياك جمع فيه أبرز أعماله الصحفية، ومن ضمنها ريبورتاجا من الخنادق الأمامية للجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية.

- إشهار -

في هذا الربورتاج، ينقل حوارًا مع أحد الجنود الفرنسيين القابعين في الخندق على الحدود مع ألمانيا.

فيسأل مورياك الجندي: ما الذي تخشاه وأنت قابع في الخندق ليل نهار أكثر من أي شيء آخر؟
استغرب مورياك عندما لم يكن جواب الجندي قذيفة مدفع، أو قنبلة من الجو، أو سلاحًا كيماويًا، أو رصاصة في الرأس على حين غفلة.
قال الجندي للصحافي ببساطة وتلقائية: أكثر ما أخشاه هو الوحدة la solitude ….
وأعترف أني، لما كنت خارج أسوار السجن، كنت أجد جواب الجندي هذا غريبًا، وربما رومانسيًا أكثر من اللزوم… كيف يخشى الجندي الوحدة أكثر من خشيته الموت، وهو في قلب نارها ليل نهار؟
لكن لما صرت في السجن، الذي سلخت فيه سبع سنوات من عمري، وابتلعتني الزنزانة الانفرادية رقم 3 في سجن عين برجة القديم، وبتُّ أقضي 22 ساعة لوحدي في صمت رهيب ووحدة قاتلة… فهمت لماذا كان الجندي الفرنسي يخاف الوحدة أكثر من أي شيء آخر.
العزلة تدفع إلى الوحدة، والوحدة تحفر في النفس ندوب الحزن والكآبة واليأس، حتى يصير الموت هدية لا تُرَد، وتصبح الحياة عقوبة لا تُحتمل…
صدق الجندي، ومات مورياك، ولم يعرف سر جواب هذا الأخير…
لكن مورياك ترك جملًا وحكمًا لا تُنسى، مثل قوله:
“إنه لمن الرائع أن تنهي حياتك كصحافي.”
“C’est merveilleux de finir ta vie comme journaliste” — FM
أو عبارته الخالدة حول فهمه لمهنة المتاعب حين قال:
“دوري أنا أن أزعج التأويل الرسمي للأحداث…”
“Mon rôle à moi est de déranger l’interprétation officielle des événements.”
هذا ما حاولت أن أفعله طيلة مساري المهني مساءلة الرواية الرسمية للأحداث ، فلقيت مصير الجندي الذي تحدث مع مورياك على خط النار الفاصل بين إرادتين، ومصيرين، وحربين… ومن يعش يَرْوِ…
توفيق بوعشرين / من أوراق السجن: البيضاء والسوداء
في الذكرى السابعة للاعتقال – 23/02/2018

أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد