محنة الانثرولولوجيا وسؤال التاريخ


يمكننا القول دون خطأ كبير أن فكر الأخر هو الذي أنتج الانثروبولوجيا كعلم معترف به مثل عدد من العلوم الاجتماعية الذي ظهرت في القرن 19 ..و اتخذ في بداية أمره شكل معرفة الآخر أي المختلف عنا ثقافيا واجتماعيا وربما حتى فيزيولوجيا.

وكحاجة لمعرفة ثقافة الأخر لم يكن هذا العلم يهتم في بدايته بثقافة الانسان على الإطلاق ، لأنه كان يستثني الإنسان المتحضر ، و حين يناقش العالم الأمريكي كروبر هوية ومهمة الأنثروبولوجيا التي دار حولها جدل طويل آنذاك، ينتهي إلى القول بأن الهدف الأساسي للأنثروبولوجيا هو التمييز بين النماذج والأنماط الثقافية المختلفة، وليس الوصول إلى التجريدات العامة أو القوانين.

وهذا ما انتهى إليه أيضاً روبرت بوروفسكي الذي اعتقد أن علم الأنثروبولوجيا يتضمن في جوهره مقارنة وتحليلاً لأوجه الاختلاف والتماثل في الثقافات.

وأشار إلى هذا الرأي كاريزرس الذي حاول التشكيك فيه رغبة منه في إظهار الأنثروبولوجية الاجتماعية التي ينتهي ويتحيز إليها، على أنها الأكثر إقناعاً.

فقد خصص الجزء الأكبر من كتابه “لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟” لقضية تفيد -حسب قوله- أن علم الأنثروبولوجيا لابد له أن يتجاوز الفكرة العامة عن مهمته التي تحددت بأنها ترجمة الثقافات، وذلك بأن يكون الهدف هو غرس أسلوب أكثر تاريخية، وخلق وعي أكثر حدة بالتحول في الحياة البشرية.

وفي نفس السياق تطرق الناقد أشرف الحساني في كتابكه سردية التاريخ “كتابات في اللغة والصورة والحداثة” إلى الانتكاسة التي عاشتها السوسوسيولوجيا في المغرب.

وقد اعتبر أن هذه الانتكاسة لازالت مستمرة رغم الانفراجات التي عرفتها العلوم الانسانية. وقد طرح الإشكالية الجوهرية في الجزء المعنون ب “من التاريخ الى الى الانثربولوجيا: الحوليات و تجديد الخطاب التاريخي (ص ..” يكشف فعلاً على استمرارية التداخل بين الميادين المعرفية خاصة التاريخ والانثربولوجيا
فلا يمكن انكار أوجه التشابه التي تطال هذين العلمين، الا أن لكل من هما خصوصياته؛ فالانثربولوجيا من حيث طبيعة معرفتها تعتمد أساسا على الملاحظة والمعاينة، ودراستنا للبنية الثقافية المغربية من قطاعاتها ومجالاتها لا يمكن أن تكون دراسة تاريخية، كما لا يمكن أن نتوصل الى تعميمات أو إطلاق القوانين العامة، ذلك من حيث أن كل عناصر البنية الثقافية المغربية لا يمكن تفسيرها عن طريق إطلاق القانون.

ولكننا يمكن أن نقول إن تفسيرها وتحليلها الانجع يكون عن طريق الرجوع الى أجزاء أو عناصر أخرى جزئية للبنية الثقافية ذاتها؛ بمعنى أن عنصر ما في البنية الثقافية المغربية يفسر عن طريق محاولتنا في البحث عن الأصول الجذرية له، وتبعاتها في باطن البناء التاريخي لماضي ثقافتنا برمتها.

فالانثربولوجي هنا عمله هو الإلمام بالثقافي من حيث حركته و تفاعلاته الاجتماعية، وصفا لطبيعة التغيرات والتطورات التي تخضع لها البنية الثقافية ضمن البناء الاجتماعي الماكرو.ولعل أهم قطاع يعيش هذا المخاض هو الادب في المغرب، الذي اسميه ذلك المعنى الاخر للمغرب، ذلك الدلالة الخفية و الظاهرة فيه، تنبض بين ثناياه واقع وتناقضات، ورهانات عاشها المغرب، ولازال يعيشها بمافي ذلك أنماطه الفنية والثقافية التي تناسلت من رحم سيرورته الابداعية. وتمس كذلك عاداتنا وقيمنا وتصوراتنا وسلوكنا، أي في الجانب الانثربولوجي ذاته من الثقافة، مما يطرح اسئلة متعلقة باشكالية المعنى.

ما جاء به أشرف الحساني من التقابلات بين الأنثروبولوجيا والتاريخ عملية بحثية مركبة موضوعها الأساسي هو الانسان في سيرورته الزمنية، هي مساءلة للعناصر التي تتحولق حوله من ثقافة وسياسة ودين وسلوكات وتعابير فنية و ابداعية، التي اثتت المجتمعات المغاربية و المجتمع المغربي على وجه الخصوص، المستقطبة لعدد من الباحثين الأجانب من قبيل كليفورد كيرتز ديل ايكلمان. فقد حظي المجتمع المغربي بأكبر نصيب من هذه الدارسات التي سعت إلى فهم البينات الاجتماعية والسياسة للمجتمع، ومكوناته الاقتصادية و السياسية و السوسيو ثقافية داخل مفهوم واسع للبنيات الاجتماعية المتغيرة و المتحركة، وتحليل المحددات و دراسة السيرورات التاريخية وبما تأتي من تطورات على العلاقات الاجتماعية وطبيعة النسق الاجتماعي ككل.

الاشكالية الاخرى تكمن في طبيعة التعامل الضيق مع مختلف النصوص، وصعوبة استنطاق بياضاتها، واستخراج خفاياها.

فاليوم لا زالت الانثربولوجيا تعاني من ذلك الحضور المتواضع، في مقابل الاهتمام بالعلوم المعرفية الاخرى، فهي تبقى ترجمة لثقافتنا، و القول الذي يتردد أن المغرب هو جنة الانثربولوجيين بما فيه من الأشياء والمواد والقضايا الخام التي ينبغي الانفتاح عليها وتجدر الاشارة الى تحرير الدرس الأنثروبولوجي لانه وللاسف لازال مرسخ في البنية الذهنية أن الانثربولوجيا لا يمكن أن يمارسها الا الغريب، وهو مايحيل على الانثربولوجيا الغرائبية و العجائبية. لا يمكن اليوم أن نجزم القول أن الفترة التي عرفت انتعاشة البحث الانثربولوجي بالمغرب هي الانجح، ذلك من الملاحظ التداخل الكبير بين الاثنولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ؛ بمعنى الحدود لم تكن قائمة، وهنا تصب الاشكالية التي طرحها أشرف الحساني.

- إشهار -

فأمام هذا الواقع الذي تعيشه الانثربولوجيا مغربياً ومغاربياً، نقترح مشروعاً فكرياً يمكن تسميته بالنقد المنفتح؛ ببلورة وصياغة جديدة لانثربولوجيا عربية باعمال النقد من اجل تفكيك البنيات المؤسسة لخطاباتنا وممارستنا، وانتصار قراءتنا لما هو عرضاني أي أن فهمنا للبنية الثقافية الابداعية بالمغرب تفرض علينا حركة ذهاب وإياب، من الجزء الى الكل، و من الفائت الى الراهن، ومن النص الى الواقع، ومن المعنى الى اللامعنى، ومن الفهم الى التأويل، وممارسة النحت المعرفي بمعنى ابداع وصقل المواضيع والمفاهيم والمناهج على درب تحديد ملامح مشروعنا الفكري الذي نترافع بشأنه في مجالات الرأسمال الثفافي، الذي نملكه كمجتمع مغربي من آداب وفنون بصرية، والتي تتماشى مع ما اتت به الحداثة، وتنقطع مع التلبس الاديولوجي بالانتصار لتنسيب الحقيقة.

في صياغتنا لانثربولوجيا عربية مغربية لا يعني اننا نحيل الى اية قومية بقدر ما نحيل على توطينها داخل العالم العربي مما سيحدث نقلات في البنيات الذهنية.
ويمكنني أن اقول ان الانثربولوجيا الثقافية بمنهجها التأويلي الرمزي بمقدورها استنطاق البنية الثقافية والاجتماعية التي تعج بها مختلف الصناعات الثقافية والابداعية بالمغرب.

صياغتنا لانثربولوجيا عربية سيجعل فهمنا للبنية الثقافية ملتزما بقضايا الثقافة المجتمعية. و ستجعل صياغتها تنافس عالميا مختلف التخصصات انطلاقا من ابستمولوجيا وتقاليد الانثربولوجيا المتعارف عليها، وصياغتها سيجعلها تسكن أطراف المجتمع العربي و المغربي على وجه الخصوص، ما يعني أن تجد لها افقا في مواضيع الانشغال والتطلع اليومي للناس ومتعدية للاقتباس والتبعية.

لقد قامت الانثروبولوجيا بنقد ممارستها السابقة، وقد كان ليفي استراوس من أهم المناهضين لفكرة المركزية الاثنوغرافية ،و اعتبار أن الثقافة الغربية او غيرها متفوقة على غيرها ..و هو الأمر الذي أشار إليه ابن خلدون في تطور الحضارات و اضمحلالها ..

و يمكن القول أن الانثربولوجيا نشأت مرتبطة بالميدان من خلال الوصف و تدوين المعطيات الميدانية سواء من خلال الملاحظة آو الملاحظة المباشرة ..

في البدء كانت الحاجة إلى معرفة الشعوب الأخرى، و التعرف على باقي الثقافات بشكل رسمي ابتداء من الاستكشافات الجغرافية و الاستعمارية للمعمور، و التي أرست عند الغرب فكرة التفوق العرقي على مجموع الشعوب التي لا زالت انعكاساتها حتى الآن لغويا و ثقافيا و اقتصاديا ..

بينما الآن تظهر الانثربولوجيا كحاجة لمعالجة مشاكل المجتمعات المعاصرة شرقا و غربا و شمالا و جنوبا ، من خلال تجديد جلدها كلما لامست موضوعا راهنا لتكون قادرة على استيعابه ..

انها الانثربولوجيا التي عملت و حملت في البداية رسالة علمية و ايديولوجية من المجتمعات المتحركة الى المجتمعات الجامدة ، التي لا تتحرك كما يتحرك الشمال الذي عرف الثورة الصناعية بعد الثورة التجارية و تراكم الرأسمال .. و بررت حق التدخل لحماية البدائيين في نظرها من أنفسهم ، و ضرورة تلقينهم درس الحضارة و العمران من خلال خلق نخبة تابعة ، لتقدم نفس الرؤية الانثربولوجية ..

مدارس كثيرة عرفتها الانثربولوجيا ،و قد تأسست بداية لمعرفة الشعوب المنقرضة أو السائرة إليه ، و صارت نهاية من أجل معرفة الذات الذي لم ترد يوما أن تنظر في مرآتها الخاصة ، و اكتفت بالنظر في مرايا الآخرين ،سواء بنية الفرجة او بنية اعرف عدوك جيدا تعرف نقط ضعفه، و تتعاطى معه جيدا و لأطول فترة ممكنة ليس فقط بالتدخل المباشر و إنما بطرق أكثر نعومة ..

قبل ان تتحول الانثربولوجيا من معرفة الأخر، و من أحكام مسبقة في بعض الأحيان ، إلى فهم الذات من خلال نقد ذاتها و نقد مركزيتها لتتعامل مع الأخر كما هو في نوع من الندم و التوبة عن ما فات ، فلكل ثقافة معنى بالنسبة لأصحابها و ليس هناك ثقافة أحسن من ثقافة ، و على الانثربولوجي أن يفهم ثقافة الغير كما هي.

كما ان همنا العلمي اليوم هو توطين لمجموعة من الصناعات الثقافية وصياغة سياسة ثقافية رصينة.

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد