مؤتمر الاستقلال المحسوم في أمره.. المناصب بالوراثة والمكاسب قبل الوطن أين الحزب من مغرب ولي العهد؟
مراد بورجى
نزار بركة مرشح وحيد أوحد للاستمرار على رأس الأمانة العامة لحزب الاستقلال لمدة 12 سنة كاملة، ولكي يكون له ذلك، توافق على عرض لائحة وحيدة تضم نفس أعضاء المكتب التنفيذي مع تغيير طفيف لعرضها على التصديق خلال المؤتمر “التمثيلي” الثامن عشر المرتقب..
ومن أجل “حفنة سنوات زائدة”، عطّل السي نزار انعقاد المؤتمر الـ18 لمدة 18 شهرا كاملة، ظل خلالها يتفاوض خارج القانون، كي يستمرّ الوضع على ما هو عليه، فخرج، عبر بلاغ يوم الأحد 25 فبراير 2024، لـ”يبشّر” الرأي العام المحلي والدولي أنه حقق هذا “الإنجاز الكبير”، وأعطى الضوء الاخضر لتفعيله على أرض الواقع، بـ”تخريجة” (المرشح الفريد)، التي هي “انتصار لصوت الحكمة ولقيم الحزب”، يقول البلاغ المبين… وبنبرة تهديدية، يختم بالقول إن هذا القرار المحسوم في أمره هو “تجاوز جميع العراقيل والخلافات، وصياغة تصور موحد لإنجاح محطة المؤتمر الثامن عشر”، وأكد السي نزار، في تبليغه لـ”التحت والفوق”، أن “هذا الاجتماع يشكل لحظة تاريخية مميزة في حياة الحزب لما تشكله من دلالات رمزية تعكس قدرة الاستقلاليات والاستقلاليين على تجاوز الصعاب” (بين الأعضاء التسعة والعشرين)، وكذا “قدرتهم” على “تدبير شؤونهم الداخلية بالحكمة والرزانة وسداد الرأي والموقف استحضار مصلحة للحزب”.
هذه “القدرة” ظهرت بجلاء في اجتماع المجلس الوطني لحزب الاستقلال ببوزنيقة يوم السبت 2 مارس 2024، الذي شهد واقعة “التصرفيق”، حيث جرى انتخاب أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثامن عشر للحزب، وتمت المصادقة على تنظيم هذا المؤتمر أيام 26 و27 و28 أبريل المقبل ببوزنيقة، وخرج رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر، عبد الجبار الرشيدي، على الصحافة ليقول إن تكليفه “أمانة ثقيلة” وإنه، وباقي المناضلات والمناضلين بجميع فروع الحزب وهيئاته ومنظماته وجمعياته، مرتاحون “ارتياحا كبيرا” تُجاه ذلك الذي خرجت به اللجنة التنفيذية في اجتماع الأحد الفبرايري..
السي عبد الجبار أقرّ بضرورة تأهيل حزب الاستقلال على جميع المستويات من أجل مواكبة التحولات المجتمعية المتسارعة، واعترف في الأخير بأن المغرب يواجه مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية.
نفهم من كل هذا أن المؤتمر المقبل لحزب الاستقلال ليس محطة لاستفسار الأمين العام نزار بركة عن السبع سنوات العجاف، التي عاشها المغاربة، ولا على وعوده الانتخابية التي سرعان ما بلعها مع دخوله الحكومة، ولا على شعاره القوي الذي استقطب تأييد المغاربة عندما أخرج “العين الحمرا” وهو يؤكد على وضع حد لفوضى “التحرير”، إذا تولّى المسؤولية الحكومية، من خلال تطبيق “تسقيف أسعار المحروقات”، ثم ما لبث أن طوى الشعار في ورقة مهملة ورماه في سلّة بجانب مكتبه الباذخ بوزارة التجهيز… بل هو “وقفة” لتزكية نزار ومن معه في مقاعدهم ومناصبهم ومكاسبهم، ومقابل جمود عند باقي مناضلي الحزب لغاية كذبة “أبريل” أخرى سنة 2029، دون تقديم أجوبة عن عدم تنفيذه لما وعد به ملك البلاد عقب انتخابه أمينا عاما للحزب في 7 أكتوبر 2017.
الملك محمد السادس تمنى من نزار بركة، في برقية تهنئته، أن يتوفق في “النهوض بمهامه الدستورية في التأطير الفعلي للمواطنين، وتوطيد مصداقية الممارسة السياسية، باعتباره السبيل الأمثل لتعبئة الطاقات من أجل خدمة الصالح العام”… وزاد الملك، في تأكيده على نزار، قائلاً: “ولاشك أنك لن تذخر جهدا لبلوغ تلك الغايات”… وجاء جواب الأمين العام الجديد سريعا، ببلاغ للجنة التنفيذية، التي أعربت عن “السمع والطاعة” لتوجيهات الملك، أكدت فيه على “أهمية تركيز عمل الحزب على التعبئة وتأطير المواطنين، واعتماد مقاربة جديدة في العمل السياسي”.
واليوم، بعد السبع سنوات عجاف، أين نزار من كل هذه المبادئ والأهداف الملقية على الحزب، والتي هي من صميم الممارسة السياسية وفي صلب الحقوق المواطنية والإنسانية؟ أين حزب الاستقلال الذي كان يُقام له ويُقعد، فإذا به يتحوّل مع السي نزار إلى مجرد رقم بلا هوية، صعد في مؤتمر “الطباصل”، وضَمن التجديد له في مجلس “التصرفيق” المُحضِّر للمؤتمر المقبل؟ أين هو الأمر الملكي الموجّه إلى نزار بركة حول “توطيد مصداقية الممارسة السياسية” و”التأطير الفعلي للمواطنين”، إذا كان الحزب، حسب نزار، كل ما يهمه هو المؤتمر، والترشيحات والتزكيات والمواقع واللجان، كما ظهر في “بلاغ الأحد الفبرايري”، الذي أدرج، في آخر نقطة في البلاغ، مسألة “دعوة جميع الاستقلاليات والاستقلاليين إلى الانخراط والتعبئة لإنجاح المؤتمر الثامن عشر، والانكباب على صياغة المشروع المجتمعي للحزب، من خلال المساهمة الفاعلة في إعداد أوراق المؤتمر، ومطارحة الأفكار وتجديد الرؤى والأسئلة ذات الصلة بمرجعية التعادلية الاقتصادية والاجتماعية للحزب”، وهي نقطة تظهر للقاصي والداني أنها “غير جدية”، إذ كيف يمكن “تجديد الرؤى” و”صياغة المشروع المجتمعي للحزب” في ظرف أقل من شهرين؟! وبصيغة أخرى أكثر وضوحا: كيف أن التفاوض على المناصب والمكاسب تطلّب 18 شهرا من الشد والجذب، فيما اكتفى السي نزار بأقل من شهرين لمناقشة بناء الأساسات للمرحلة المقبلة، مرحلة ولي العهد، أو مغرب الغد، المغرب، الذي سوّق له المستشاران الملكيان عبد اللطيف المنوني وعمر عزيمان سنة 2019، حين قالا، عشية إقفال عشرين سنة من حكم محمد السادس، إن المغرب يتجه نحو ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم؟ سؤال جارح يضع الحزب في تناقض مهول مع التاريخ النضالي القوي للاستقلاليات والاستقلاليين، الذين كانت لهم كلمتهم، التي لم يكونوا يخافون في قولها لومة لائم، كما يُقال، وتصدّت قياداته لكل المحاكمات السياسية، التي عرفتها البلاد في سنوات الرصاص، دفاعا عن الحرية والكرامة وحق النضال من أجل الديمقراطية، حتى أن العرض الأول لـ”حكم التناوب”، الذي قدّمه الملك الراحل الحسن الثاني، تعرّض للتعثّر بسبب الموقف المبدئي والمخالف الذي رفعه الزعيم الكبير امحمد بوستة في وجه إدريس البصري، باعتباره يجسّد رمز التزوير والقمع في تاريخ البلاد، بل كاد الحزب يقاطع انتخابات 1992 دفاعا عن ضمانات النزاهة والمصداقية الانتخابية ورفضا للتحكّم في صنع الخرائط السياسية، حتى أن الحزب أبدع مصطلحا فريدا في توصيف التزوير هو “المخدوم”، و”النتائج الانتخابية المخدومة”… هذا الحزب هو الذي كان الاستقلاليون والاستقلاليات، ومعهم الكثير من المغاربة، ينتظرون أن يقلب الطاولة على حكومة أخنوش، فإذا كانت المؤاخذات على حكومة بنكيران لا ترقى إلى “التناقض الجوهري”، ومع ذلك انسحب الحزب من حكومة الإسلاميين، فيما مؤاخذات المغاربة على حكومة باطرون المحروقات أدهى وأفدح وأكبر، بل إن الشعارات التي ظل الحزب، وأمينه العام نزار بركة بالخصوص، يرفعها في حال دخوله الحكومة، بقيت كلها حبرا على ورق، بل بلغ الأمر بالسي بركة أن بلع لسانه على كل “الهضرة” التي كان يسوّقها عن تسقيف أسعار المحروقات والتصدي للفساد والريع، بل إن حزب علال الفاسي وامحمد بوستة، الذي ارتبط نضاله الديمقراطي بمطلب “من أين لك هذا؟”، هو نفسه حزب نزار بركة، الذي تواطأ مع الحكومة في سحب مشروع تجريم الإثراء اللامشروع، بل الأدهى هو أن الزمن دار دورة انقلابية مهولة حين سيزكّي حزب الاستقلال موقف حكومة أخنوش الذي اعتبر أن هذا المشروع “مخالف للدستور”…
عمليا، تُظهر الممارسة السياسية لحزب علال الفاسي، خلال السبع سنوات الفارطة، أن أمينه العام “أخلف” مواعيده، ليس مع الاستقلاليات والاستقلاليين ومع المغاربة فقط، بل أيضا مع الجالس على العرش، وخالف توجيهاته في برقية التهنئة، ولم يفِ بوعوده الجوابية، التي اعتبرتْ أن “الرسالة الملكية السامية ستظل نبراسا ومحفزا أساسيا لقيادة الحزب”، وفي المحصلة، يجد السي نزار نفسه من الذين حقّت فيهم وعليهم غضبة الملك على النخبة الحزبية “الخالدة”، حين قال إن “بعض الأحزاب تعتقد أن عملها يقتصر فقط على عقد مؤتمراتها، واجتماع مكاتبها السياسية ولجانها التنفيذية، أو خلال الحملات الانتخابية، أما عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع المواطنين، وحل مشاكلهم، فلا دور ولا وجود لها”، ما دعا الملك إلى ترجمة غضبه بالقول إن “هذا شيء غير مقبول، من هيئات مهمتها تمثيل وتأطير المواطنين، وخدمة مصالحهم”…
والمقصود من هذه الغضبة أن الملك عبّر، بطريقة “ملكية” و”غير مباشِرة”، عن تذمّره من فشل الأحزاب في استقطاب وتكوين أطر مؤهّلة قادرة على حسن تدبير مختلف مجالات الشأن العام، مما يجعل الملك يضطر إلى اللجوء إلى خارج الأحزاب يبحث عن الطاقات، ليس لعدم وجود الطاقات بالأحزاب، بل لأن قيادات هذه الأحزاب تحجب الرؤية عنها، وتمارس عليها الإهمال، الذي يصل أحيانا إلى الإقصاء، فيما تضع في الواجهة مقرّبيها المحظوظين كما حصل مع عدة أحزاب، في مقدمتها حزب الاستقلال نفسه، إبّان تشكيل حكومة عباس الفاسي، وما رافقها من جدل وخرجات إعلامية لمسؤولين حزبيين حول مشاورات تشكيل الحكومة، والملاسنات حول طبيعة الحقائب وعددها، والترشيحات “المهزوزة”، التي لم تكن تستجيب لمواصفات تدبير بعض القطاعات، ما دعا القصر، زيادة على وزارات السيادة، إلى إضافة الإشراف على وزارتين لديهما صلة بالمشاريع الملكية المهيكلة، تضمّان الفلاحة والصيد البحري، وكذا الطاقة والمعادن والماء والبيئة، حيث وضع على رأس الأولى عزيز أخنوش (الذي أخفق في كل شيء)، والثانية أمينة بن خضراء، فأراد المستشار الملكي الراحل عبد العزيز مزيان بلفقيه، الذي كلّفه القصر بالحسم في الصيغة النهائية لحكومة عباس الفاسي، التي كانت تشهد كثيرا من الانسدادات، صبغ أخنوش وبنخضرا بلون الحركة الشعبية، ولمّا أبدت الحركة بعض “التمنّع” في قبولهما، سارع بلفقيه إلى الانعراج عن الحركة الشعبية والتوجّه إلى التجمع الوطني للأحرار، ليَدخل المستوزران بمعطف حزب عصمان، واعتُبر “استقلالي السلف” عادل الدويري وافدا جديدا على الحزب ليتقلد وزارة السياحة،، وقبله وفي مثل سنه، وُضع كريم غلاب على رأس قطاع التجهيز والنقل، وصُبغا باللون الوردي، فإذا بشيخ الاستقلال، امحمد الخليفة، يوجّه سهام النقد لقبول قيادة الحزب بصبغ هاذين “الصغيرين”، ومعهما شابان آخران، هما أحمد توفيق احجيرة (الإسكان والتعمير والتنمية المجالية) وياسمينة بادو (الصحة)، معتبرًا أن الجيل القيادي الأول هو الأولى من هؤلاء بالاستوزار، وفق “الاتفاقات التي تخللت اجتماعات قادة الكتلة مع الملك الراحل الحسن الثاني عشية الإعلان عن حكومة اليوسفي”، على حد قوله…
هذه مجرد أمثلة بسيطة جدا، يمكن القياس عليها في باقي الأحزاب وباقي الحكومات، وهي تعني، في الواقع، أن الأحزاب تفتقد إلى الأطر والطاقات والكفاءات اللازمة، أو بالأحرى، كما سبق أن قلت، فإن القيادات المتنفذة، المفتقدة إلى الثقة في النفس والخائفة من المزاحمة أو المنافسة، لا تبذل مجهودا في تكوين الأطر المؤهلة، التي تُشكّل منها حكومات الظل، إذ إنه من وظائف الحزب الدستورية، أيضا، التدافع لتولّي السلطة، لاستعمالها في تحقيق برامجها المجتمعية، التي تعلنها على المغاربة، وتستقطب منهم المؤيدين، وتفتح أمامهم أبواب التدرّج الطبيعي على هياكل الحزب القيادية بناء على الكفاءة والعطاء والمهارات، غير أن العديد من الأحزاب لا تلتفت إلى تأهيل وتجديد النخب إلا في الشعارات والخطابات، في حين تغلق الأسوار على قياداتها، التي تستخلد نفسها ويخلّدها أتباعها ومريدوها في مناصبها، في تعارض تام مع الأفق، الذي نادى به الملك محمد السادس، في معرض تشديده على إعادة الاعتبار للشأن السياسي بالمغرب، والذي “يتطلب تفاعلا كبير للأحزاب مع المشاكل اليومية للمجتمع المغربي، ولاسيما فئة الشباب”.
�هذا الأفق لا يغيب عن الأحزاب، وضمنها حزب الاستقلال، باعتباره جزءا من موضوع هذا المقال، كما لا يغيب عن نزار بركة نفسه، حين اعتبر أن دعوة الملك إلى الأحزاب السياسية لاستقطاب نخب جديدة ولتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي، تستوجب من هذه الأحزاب “مضاعفة الجهد لمواجهة عزوف الشباب عن الشأن السياسي، عبر ربط الفعل بالقول، وترجمة تطلعاتهم وتوقعاتهم لسياسات ملموسة وتجاوز المزايدات والخطابات الشعبوية واعتماد خطاب واقعي مبني على تحليل واقعي وتقديم حلول واقعية”… إن هذا الذي ذهب إليه السي نزار هو تجسيد حيّ لعدم “ربط الفعل بالقول”، ولفشل هذا “الجهد المضاعف” في تحقيق أهداف دعوة الملك إلى الأحزاب، كما يدلّ على ذلك مجموع المستوزرين باسم الاستقلال، خارج الأمين العام طبعا، في حكومة عزيز أخنوش، إذ كلهم كفاءات جرى صبغها باللون الوردي…
هذا الوضع يطرح أكثر من سؤال حول “تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة”، ما اضطر الجالس على العرش إلى التعبير عن غضبه بصفة علنية من هذا الوضع، الذي لا يخدم، بأي حال، موجبات التأهّل الذاتي والموضوعي لرفع رهانات وتحديات مغرب ولي العهد، مغرب الغد، وهي مهام لا يمكن أن تنهض بها إلا أحزاب مؤهّلة قادرة على النجاح في تمكين المغرب من مؤسسات قوية وقادرة على تحقيق إصلاحات جوهرية في البنيات الأساسية للبلاد.. وهذا بالذات ما عبّر عنه الملك بالقول إنه “أمام هذا الوضع، فمن الحق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانون هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟”… وبلغ الرفض الملكي لهذا الوضع أوجه عندما تساءل: “إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة، التي تُمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”، قبل أن يتوجّه إلى هؤلاء السياسيين برسالة مباشرة تضعهم أمام خيارين فقط: “لكل هؤلاء أقول: كفى، واتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا”…