التطبيع والنقاش العمومي… أين أصوات الشارع والمواطنين؟!
تفرض القضية الفلسطينية نفسها على جدول أعمالنا، سياسيا وحقوقيا وإنسانيا. في هذا العالم-القرية أو العالم-الغابة – لا أدري؛ فقد اختلطت الوقائع أمامنا- أمسى كل شيء مرتبطا أكثر فأكثر. فها هي فلسطين تُمسي، مجددا، قضية القضايا حتى داخل برلمانات أبعد الدول وعلى منابر كل زعماء ورؤساء العالم تقريبا. بل بسببها، انقسم العالم قسمين وأكثر. وضمن هذا السياق، أمست علاقتنا نحن، المغاربة، بالقضية أكثر تقعيدا.
ثمةَ سؤالان لا بد لكل مغربي أن يطرحهما ويتأمَّلُهما لأنهما سيظلان يُلاحقان بِلادنا عبر التاريخ ما لم يُعاد النظر في قرار التطبيع مع إسرائيل:
*أولُهما: كيف نقبَل- كمغاربة ودولة مغربية- أن نعمل على حل قضية تمتد إلى تاريخ الاستعمار الاسباني لجنوب بلدنا في الصحراء من خلال تطبيع العلاقات الديبلوماسية والسياسية والأمنية والاقتصادية مع دولة هي نفسها مُستمِرة لأرض غيرِها، ما دام التطبيع هو اعتراف فعلي بهذا الاستعمار وتكريسٌ لَه؟
*والثاني: كيف نرفض الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو الانفصالية بينما التطبيع هو في حد ذاته دعم للشرعية السياسية وللقدرة الاقتصادية لدولة إسرائيل المحتلة؟
إذن، بماذا سنُجيب؟!
هل سنقول، مثلا، أن التطبيع لن يكون على حساب الحقوق الفلسطينية. وهي الحُجة التي يُرددها كل من الذباب الإلكتروني والصراصير (النشطاء المدنيون المزيفين) والـمغاربة المتصهينون (ممن يكتبون “كلنا إسرائيليون” مثلا أو الذين يدينون حركات التحرر الوطني الفلسطينية وينعتونها بالإرهابية) وأولئك الذين يبحثون عن عقود الصفقات الاقتصادية مع الشركات الإسرائيلية، وكذا الخطاب الرسمي الذي يجري تمريره عبر القنوات العمومية.
لكن هذه الحجة واهية، ويمكن ردها من أكثر من طريق. فالتطبيع مع كيان مستعمِر ومجرِم هو في ذاته إسهام غير مباشر في جرائمه ضد الفلسطينيين من خلال إصباغ الشرعية على نظام حكمه.
ثم ما هي الحقوق الفلسطينية التي ضَمِنها أو دافع عنها المغرب حتى الآن؟ حماية المدنيين أم وقف الاستيطان أم عودة اللاجئين أم إطلاق الأسرى أم حماية المستشفيات أم دعم خيار المقاومة أم الإيصال الفعلي للمساعدات؟ لا شيء من هذا تحقَّق.
لا بل حتى المكاسب الرمزية المفترض أن نكسبها من قرار التطبيع لم نُحققها، بما فيها الحصول على خريطة مغربية غير مقسمة إلى نصفين بخط بارز في المكاتب الرسمية الإسرائيلية.
يجب أن نقولها صراحة: إن التطبيع في حد ذاته نوع من الاستضعاف للشعب الفلسطيني، واعتداء صريح على حقوقه. وهو يعني ما يلي: سنُوَقع رغما عنكم مع الإسرائيليين لأن قوتكم لا تؤهلكم للإضرار بمصالحنا الوطنية. أليس هذا هو بالضبط ما تقوله ديبلوماسيتنا فعليا للفلسطيني؟ وإن هذا الأسلوب الخشن واللاإنساني يستحق الإدانة التي يتعرض فيها شوارع المدن المتظاهرة اليوم.
أعتقد أن هناك حاجة إلى طرح النقاش حول العلاقة بين إرادة الشعب المغربي ومصالحه؟ ما الذي يحدد الآخر؟ وما الذي يسبق ماذا؟. إذ هناك علامات استفهام كثيرة بشأن سلوك الديبلوماسية المغربية وكَفاءَتِها.
إن كل الضوضاء التي يثيرها الإعلام العمومي المغربي هي مجرد عمل تمثيلي يستعرض الصوت الواحد والرأي الواحد والموقف الواحد. هل العمل الديبلوماسي الكفوء بات يعني غلق كل منافذ الحوار المفتوح بشأن توجهات وخيارات وقرارات السياسة الخارجية للبلاد؟
لقد بدأت فئة مُقدَّرة من المجتمع تشك في أن مؤسساتنا الدستورية تحترم فعلا إرادةَ وهوية الشعب المغربي، وهي أيضا تشك في أن تصورات هذه المؤسسات للمصلحة العامة تتطابق مع تصورات المجتمع. فالملاحظ أن هنالك فجوة ليست بالهينة بدأت تتوسع وتتعمق، أكثر فأكثر، بين المجتمع والدولة- وإلا لماذا كل تلك الدعاية المكثفة والتبريرية لقرار التطبيع قبل عملية “طوفان الأقصى”!؟ ولماذا تجنُّب الحديث عن التطبيع وعن آثاره بعد هذه العملية!؟.
ولهذا يتساءل عديد من المغاربة: منذ متى كان الإسرائيليون الصهاينة أصدقاءنا حتى نعتبرهم كذلك؟.
فمنذ توقيع التطبيع وحتى قبيل عملية طوفان الأقصى، شاهدنا تلك المحاولة الدنيئة التي أداها الإعلام العمومي ووكالات الإعلام المتصهينة للخلط بين الصهيوني والإسرائيلي ذي الأصول المغربية واليهودي المغربي.
لكن كيف يستوي إدموند عمران المالح مع المغاربة الـمُجَنَّدين ضمن جيش الاحتلال الاسرائيلي؟ أو سْيُّون أسيدون مع الإسرائيليين المستوطنين لأراضي الغير؟ أو أبراهام السرفاتي مع عمير بــيـرتس (وزير دفاع إسرائيل سابقا/من أصول مغربية)؟ وحقيقة، إن هذا الخلط الذي يثيره الإعلام والساسة هدفه إعطاء انطباع كاذب بأننا نستطيع أن نوفق بين التطبيع مع الإسرائيلي وضمان حقوق الفلسطيني. بينما هذا محض تزييف للوقائع وتحريف للحقائق. بينما الحقيقة تقول أننا أمام قضية على شاكلة إما هذه وإما تلك. ولهذا تجدهم باتوا لا يتجرأون حتى على الإقرار والإعلان بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة مُحتَله ورفع مَظْلَمَته التاريخية.
إن الساسة والإعلام يؤدون لعبة غير نظيفة وخطيرة في آن؛ هدفها تشويه قناعات المغاربة وحرفهم عن ثقافتهم الأصيلة التي تجعل من القضية الفلسطينية قضية أمة وقضية كل إنسان يملك ضميرا حيا وصوتا مناهضا للظلم ومُدافِعا عن العدالة والحرية والحقيقة.
اليوم، تم سحب ممثل مكتب الاتصال الإسرائيلي، ديفيد غوفرين، وطاقم هذا المكتب من المغرب. وأوْرَدَت الصحافة الإسرائيلية أن الأمر يتعلق بقرار إجلاء اتخذته وزارة الخارجية الإسرائيلية. غير أن طلب الديبلوماسية المغربية لهذه الخطوة، ابتداءً، يبقى غير مستبْعَد لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها تفادي اللوم العلني من الشارع المغربي لمن يقفون مباشرة وراء قرار التطبيع.
لكن إلى متى سنلعب هذه “الغميضة”؟ فتْحُ مكتب الاتصال ثم غلقه، ثم فتحه ثم غلقه، كلما زاد عدد القتلى في الصف الفلسطيني وارتفعت حرارة الشارع المغربي! أليس المطلوب أن تُحترم إرادة الشعب المغربي وتاريخه النضالي ضد الاستعمار ومرجعِيته الإسلامية وعاطفته الإنسانية اتجاه الفلسطينيين.
لا يُمكننا أن نستمر في اتخاذ قرارات كبرى تمس الهوية العميقة للمغاربة وانتماءهم الحضاري لمنطقة ثقافية عريقة وكأن شيئا لم يكن. وإلا فالديبلوماسية المغربية يُفترض فيها أن تمثل ماذا؟
المغرب في صحرائه. وواجبه أن يدافع عن وحدة ترابه وحقه المشروع ليس وفق حسابات ميزان القوة الدولية فحسب، بل وايضا وفق هوية الشعب وقناعاته التاريخية الراسخة. لأن قضية الهوية الثقافية للشعوب لا تقل أهمية من قضية وحدة التراب. والمطلوب من الديبلوماسية الرشيدة أن تبحث عن بدائل ديبلوماسية وسياسية لحل المشكل مع جبهة البوليساريو عوض فتح ملفات لا تحظى بالإجماع المغربي، كالتطبيع مع إسرائيل. لأن هذا الربط بين التطبيع والصحراء يجر ملفا انقساميا -أقصد التطبيع- إلى دائرة ملف يحظى بإجماع المغاربة. وهذا أمر غير منطقي وغير حكيم. بل هو أمر ينم عن تقدير خاطئ لأهمية البعد الجيوثقافي في فهم قضايا التراب والسياسة.
إن المغرب، وهو يعيش أزمات حقيقية متراكمة كاللامساواة وتفكيك الديمقراطية وإضعاف المؤسسات الحزبية والمدنية، يحتاج إلى قيادة ديبلوماسية تجمع المغاربة ولا تُفرقهم. خاصة وأن الأمر يتعلق بقضية مركزية ووطنية كبرى، كقضية الصحراء. فكيف نؤسس شرعية نضالنا من أجل حقوقنا التاريخية والسياسية في الصحراء على قرارات غير مُجمَع عليها، بل تبث الانقسام في المجتمع؟ هل فُقِدت الحكمة في هذا البلاد؟ !.
الآن، تمر القضية الفلسطينية من مرحلة مفصلية، ستَـرهن أمتنا لعشر سنوات قادمات أو أكثر. هذه ليست معركة تكتيكية صغيرة مع المحتل، بل إنها مَفصل استراتيجي في تاريخ علاقتنا معه. وستَتَحدد قوتنا، كشعوب ودول تواقة إلى التحرر من الهيمنة الغربية، على ضوء نتائج المعركة. والمغاربة قالوا كلمتهم، شوارع المدن الكبرى وفي المدن المتوسطة والصغيرة. والبعض يسأل: أين دولة المغرب مما يجري؟ وأي شعب تُمثِّل ديبلوماسيتنا؟.
السؤال الذي لا بد أن نطرحه بصوت عال اليوم: إلى متى ستُتجاهل الإرادة الجماعية للمغاربة؟. ففي الوقت الذي لا يحتاج اليهودي المغربي اعترافا به من أحد، لأن البلاد بلاده، فإن معظم المغاربة لا يرغبون في أن يكونوا، رغما عنهم، أصدقاء للإسرائيليين، أكانوا إسرائيليين يهودا أو غير يهود. لأن الإسرائيليين- عدا فلسطينيي 48 الذين ظلوا متشبثين بأرضهم وفُرض عليهم التجنيس بسبب ذلك- هم محتلون لأرض غيرهم، ويخدمون مشروعا استعماريا قائما على الفصل العنصري والتطهير العرقي والجريمة، ويعمل بكل قوته على إضعاف المنطقة ويخدم الأجندة الغربية، استخباراتيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا.
فهذه الدولة اللقيطة والعميلة تؤدي دور العصى الساهرة على إبقاء منطقةٍ بأسرها تحت التبعية الاقتصادية والضعف السياسي من خلال تحطيم الدول والجماعات وبث الفرقة بين الطوائف والمذاهب والقوميات والدول. والمغرب نفسه مهدد بهذه التكتيكات الانقسامية، سواء نحو الجارة الجزائر أو نحو القوة الإقليمية المستقلة والرئيسة “إيران”، على سبيل المثال، أو بين مكوناته العرقية (يعمل الاحتلال على إثارة الأحقاد بين المكونين الأمازيغي والعربي).
المفترض في الأنظمة الذكية عدم التمادي في معاكسة إرادة شعوبها وثقافتهم واختياراتهم السياسية الكبرى، بما فيها النظام السياسي المغربي. لأن مراكمة الأخطاء لا تخدم الاستقرار على الأمدين المتوسط والبعيد. ولنا في تجربة الشاه الإيراني خير مثال؛ وذلك لـمَّا تَطرَّف في اختياراته الثقافية والسياسية نحو الاتجاه المضاد للهُوية الحضارية لبلاده، وعلى رأسها تطبيعه مع إسرائيل، فكان أن وَجد نفسه معزولا وسط شعبه.
فؤاد بلحسن
كاتب مغربي