حول الأيديولوجيا والحزب.. مساهمة مبدئية أولية في فك شفرة “أين الخلل”


” إن موقف الحزب السياسي من أخطائه، هو واحد من أهم وأصدق الأدلة على جدية الحزب وتنفيذه في الواقع لواجباته إزاء طبقته والجماهير الكادحة. إن الإعتراف جهارا بالخطأ، والكشف عن علله وتحليل الظروف التي أدت إلى ارتكابه والبحث باهتمام في وسائل إصلاح الخطأ، إنما هو تنفيذ لواجباته، إنما هو تربية وتعليم للطبقة. ” 1

من بين أهم الكوارث في عملنا التنظيمي السياسي، هو غياب الوضوح التام بين رفاقنا حول مسائل معينة في النظرية، لما لها من أهمية بالغة. وهناك التباس شبه مقصود في هذا الصدد. وأعني بذلك مسألة الأيديولوجيا، وحول طبيعة تنظيمنا الحزبي بشكل خاص. وكذلك حول القيادة المفترضة لهذا الصراع.

في حوار له على القناة الثانية، بعد انتخابه أمينا عاما لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، أكد الرفيق عبد السلام على أن اليسار المغربي أو قادته بالخصوص، كانوا يقولون الإشتراكية سابقا، واليوم يتكلمون عن الإشتراكية كأفق، وحاليا يتحدثون عن العدالة الإجتماعية.! وبرجوعنا نحن إلى أوراق المؤتمر الإندماجي للحزب، تجيبنا ورقة المشروع المجتمعي عن العدالة الإجتماعية، أنها المدخل الأساسي لبناء مجتمع المساوات الكاملة في الحقوق والواجبات. كما تساءل المحاور بشكل مباشر مع رفيقنا وهذا الشق الذي يهمنا صراحة، أن خطاب الرفيق ذكره بمن يقول أن زمن الأيديولوجيا قد انتهى. وكان جواب الرفيق الذي نحييه عاليا على جرأته، أن مسألة الأيديولوجيا قد انتهت ليست صحيحة.

بالفعل، إن مثل هكذا خطاب ومقال، وخصوصا من بعض قادتنا حزبا وشبيبة، بالإضافة إلى أوراق المؤتمر الوطني الإندماجي، في ورقة الهوية والخط السياسي وورقة المشروع المجتمعي بل وحتى ورقة العمل الجماهيري، والتي في ما من موضع تم ذكر مسألة الإشتراكية والايديولوجيا والصراع الطبقي، هو الذي يدفع كل ذي روح ثورية للإنتماء إلى حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي. وهو الذي دفعنا في سابق الأيام، للإلتحاق بالحزب الإشتراكي الموحد، بحكم يافطته، والذي أتبثت الممارسة الموضوعية أنه لم يكن قط حزبا ولا اشتراكيا ولا موحدا من الأساس.

ولكن من ذا الذي يمكن أن يثق بالخطابات والمقالات الثورية والوثائق وحدها، غير الأطفال والبيروقراطيين الذين لا أمل في شفائهم. ومن يمكن أن لا يفهم أنه يجب التحقق من الأحزاب والزعماء من خلال نشاطهم أولا، لا فقط وفق بياناتهم، وبتعبير سطالين الرائع، غير فئران الأرشيف ؟ أليس لهذا السبب قد علمنا لينين أن نتحقق من الأحزاب والتيارات والزعماء لا من خلال بياناتهم وقراراتهم بل من خلال أعمالهم على أرض الواقع ؟ والتي تظهر ما هي المصالح التي تمثلها هذه السياسة وتدافع عنها.

ينبغي علينا أن نتساءل جميعا، لماذا فشلت سابقا الأحزاب والتيارات المؤسسة لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، من الطليعة الديمقراطي الإشتراكي، المؤتمر الوطني الإتحادي، البديل التقدمي، وصولا إلى الإشتراكي الموحد/اليسار الوحدوي، في أن تكون أحزابا وتيارات إشتراكية فعلا لا حبرا على ورق فحسب ؟ ألا يذكرنا هذا الإندماج باندماج سابق بين أربع مكونات وكأن الزمن يعيد نفسه، بين منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، حركة الديمقراطيين المستقلين، الحركة من أجل الديمقراطية، فعاليات يسارية، أدى إلى تأسيس حزب اليسار الإشتراكي الموحد، وبعدها انضمام جمعية الوفاء للديمقراطية ليتوج هذا الإندماج بتأسيس الحزب الإشتراكي الموحد، الحزب الذي فشل فشلا ذريعا بعد عقدين من الزمن في توحيد قوى اليسار الجذري المغربي كما كان يدعي آنذاك، وعدم استطاعة قيادته البرجوازية الصغرى قيادة الجماهير، وفي الأخير تحولت إلى قيادة انتهازية وبدون منازع، بتضحيتها بسواد الرفاق من أجل مصالح مؤقة لأقلية تافهة من زمرتها الضيقة !؟ وما قيمة كل هذا التاريخ الحافل بالتضحيات وما فائدة كل تلك النضالات والإعتقالات والاستشهادات، منذ خمسينيات القرن الماضي، إذا لم ننتصر ؟ وهل يمتلك حزبنا اليوم، الأدوات اللازمة لبناء مجتمع العدالة الإجتماعية في أفق البناء الإشتراكي المنشود ؟ أم أننا سنبرر فشلا آخر بعد عقدين آخرين من الصراعات الهامشية والتناقضات الثانوية، بذريعة انسحاب حليف أو قوة المخزن الخارقة وتوغله ؟

في هذه المسائل، يظهر ليس فقط تبخيس النظرية الماركسية بل يظهر أيضا التقليل من دور وأهمية التحليل الماركسي للواقع المغربي؛ في الوقت الذي تبين للجميع أن كل الحلول التي تبحث عن التقدم والإزدهار خارج الحل الماركسي غير ممكنة، ولا تعدو أن تكون مجرد نصب وأوهام 2. ما يجعلنا نعلها صراحة، أن هذا التبخيس ليس فقط جهلا أو خطأ متعمدا لقادتنا، بل جريمة في حق رفاقنا الشباب، جريمة في حق جمهور المعذبين الفقراء المرتمين في حضن الظلامية التي أصبحت المنقذ والمثال الوحيد بعدما تهاوت الأمثلة بتقاعسنا وإفساحنا المجال لها، كما أنها جريمة كبرى في حق الحزب وتوجهه السياسي مستقبلا، الشيء الذي يجعله فارغ المضمون، تائها في بحر الصراع الطبقي دون بوصلة تقوده نحو بر الأمان.

وأما عن مسألة الأيديولوجيا أو الوعي المقلوب بالعلاقات الواقعية كما سماها كارل ماركس، وسياق هذا المفهوم تاريخيا، والثورة العظيمة التي أحدثها كارل ماركس في نظرية المعرفة البشرية والتي استطاع عن طريقها الإنتقال من دائرة الأيديولوجيا بمفهومها القديم إلى دائرة علم التاريخ .. المادية التاريخية. لابد أن نحيل رفاقنا من خلال هذه الورقة، إلى مبحث للرفيق عبد السلام المودن بعنوان “ثورة كارل ماركس في نظرية المعرفة” وهو المبحث الأخير من كتابه المهم ” الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية ” مما لهذا المبحث بالذات من أهمية قصوى لرفاقنا الشباب، كي نتحرر جميعا ولمرة أخيرة من جميع التعريفات المجردة والمثالية لهذا الوعي الأيديولوجي المقلوب. وكيف أن المادية التاريخية ليست علما للتاريخ وحسب، بل هي أيضا أيديولوجية ثورية للطبقة البروليتارية الثورية. إنها أيديولوجية ثورية، لأنه من جهة لم تفسر التاريخ بهذه الطريقة الأيديولوجية أو تلك كما كان يفعل الفلاسفة قبل ماركس، بل لقد فسرته بالطريقة العلمية الوحيدة الممكنة، وهي المادية الجدلية. ومن جهة أخرى، فهي لم تكتفي بالتفسير كما كان يفعل الفلاسفة، بل لقد أرادت تغيير العالم، من خلال انخراطها الواعي والمنظم، في الصراع الطبقي الواقعي والموضوعي الذي تخوضه البروليتاريا، وهي الطبقة الاجتماعية الوحيدة المؤهلة لإعطاء مخرج ثوري لهذا الصراع 3.

هذا الاستخفاف بالنظرية، أضحى واقعا في تفاعلات رفاقنا القادة، لقد ألفوا نقاش الكواليس، نقاش المقاهي والحانات، ألفوا تلك النقاشات البطولية الماضوية على هامش المؤتمرات و الإجتماعات الرسمية التي لا تناقش فيها سوى الأمور التقنية الصرفة، ألفوا ذاك النقاش التعجيزي، والذي أصبح كالعقيدة عند المناضلين اليساريين، هذا المرض العضال، ويا حسرتاه، قد أعدى جل رفاقنا القادة المثقفين الشباب.

في مداخلاتنا معهم ، في نقاش الهوامش الشبه رسمي طبعا، كلما ذكرنا الصراع والتثقيف الأيديولوجي، كلما استحضرنا جهلنا بالنظرية الذي وجب علينا تجاوزه بتنوير أنفسنا وتحويلها على نمط الطبقة العاملة إن كنا نرغب حقا في أن نكون طليعتها، وإن كنا حقا نرغب في مواصلة العمل الذي لم يتم إتمامه بعد، يهتزون منتفضين كرضيع يخشى حرمانه من صدر أمه، فيجروننا باستفزازنا إلى المستنقع العكر الذي نرغب جاهدين في رفع أنفسنا برفعهم منه. هم في الحقيقة لا يعارضون النضال الأيديولوجي داخل الحزب ولا يتخوفون كذلك من ذكره أمام الشباب الغير عارفين بالنظرية، لكنهم وكما تبين ردود أفعالهم، يريدون توجيهه، أو يأملون، على نحو لا ينكشف فيه واقعهم الطبقي الهش، أو تتأثر علاقاتهم المصلحية بهذا أو ذاك. ما يدفعنا لإعلانها بصراحة وقحة، أن مثل هذا التوجيه الذي يأملونه غير مقبول أبدا. ويجب أن نعلن أن من يتسامح مع مثل هذه الأمور ولو مرة واحدة بأي شكل من الأشكال، إنما ينفي إمكانية خوض كل أشكال النضال الأيديولوجي من داخل الحزب. هذا ما وجدنا عليه قادتنا من الأصل، توافقات في العلن، مرور الكرام على النظرية وكأنها سهلة المنال، تحريض ودعايات مسمومة في الجنبات، اتهامات بالجملة من تخوين وبولسة دون أي داع وعمل يذكر على أرض الواقع اليومي.

وهكذا، يتضح لأي طاقة جديدة العهد بالإنخراط، علاوة على الكثيرين ممن راكموا الخيبات تلو الخيبات، أن أحزابنا هذه والتي تدعي الإشتراكية جميعها، أقول جميعها، ليست منظمات للبروليتاريا المناضلة كما يجب، ولم تكن يوما كذلك، بل نواد لثلة من البرجوازيين الصغار العائمين المغلوب على أمرهم في الصراعات الذاتية والمماحكة. وكم راح ضحية لهذه الصدامات الفارغة، شابات وشباب في أوج عطائهم، ديناميين، كلهم طاقة وحيوية، لقد أضعنا الكثير الكثير من الطاقات المناضلة، منهم من تلقفته الأحزاب الإدارية والمخزنية، ومنهم من لعن العمل السياسي الحزبي برمته، فغاص في دوامة العمل الفردي الليبيرالي، أو فضل النضال لأجل مكتسباته الفردية والإجتماعية البحتة. هذا كله، ليس بسبب ذاك الفرد أو تلك كما يدعي البعض الفاشل من رفاقنا، بل سببه الرئيسي، ضعف البنية الإستقبالية للمنخرطين الجدد إن لم نقل انعدامها، ضعف التكوين والتتبع، ضعف الرؤية الواضحة للحزب، ضعف التكوين الايديولوجي لقادتنا الأعزاء. وعدم استيعابهم بالخصوص، حقيقة، أن قضايا السياسة والتنظيم، هي بحد ذاتها قضايا خطيرة بحيث لا يجوز الكلام عنها إلا بجدية كاملة.

هل يجب علينا أن نكشف ما اقترفه قادة الحزب في منظماتهم وأحزابهم وتياراتهم السابقة من أخطاء ؟ كيف يمكن أن نرتقي برفاقنا الشباب إلى مستوى الوعي السياسي لحزب علمي عملي فعال ؟ كيف يمكن لنا جميعا أن نتحرر من النظرة الخاطئة التي نسير وفقها بسبب أخطاء وأفكار رفاقنا الزعماء ؟ هل يجب علينا أن نسلط الضوء على تلك الأخطاء حتى نميط اللثام عليها ولا تصبح منهجا يعاد على الدوام، وحتى نربي أنفسنا قبل رفاقنا على أساس ما اقترفه القادة من أخطاء ؟ الجواب قطعي بالإيجاب. وجب علينا خوض هذا النضال بلا هوادة، نضال كشف أخطاء الزعماء، والتي تضللنا جميعا وتمنعنا من أن نضع أقدامنا في الطريق الصحيح. فلم يعد لدينا من الوقت ما يكفي، إن تسامحنا مع تعاظم الأخطاء في قضايا الحزب والمتعلقة أساسا بالنضال الأيديولوجي وتربية رفاقنا تربية سياسية، سنعيد تكرار نفس التجارب المريرة، وبالتالي قطعا نفس الأخطاء.

” إنه من الصعب على أي حزب سياسي وعلى أي فرد أن يتفادى الأخطاء، ولكن نرجوا أن تكون أخطاؤنا أقل، وحين نرتكب خطأ ما نسرع في إصلاحه. وكلما كان إصلاحه سريعا وكاملا كان ذلك أفضل. ” 4 نحن معنيون إذن، بنقذ ذاتي جماعي صارم ؛ أرجو أن يكون تفكير رفاقنا الواعي قد وصل إلى مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد الذاتي والنقد بالخصوص، مجرد عملية تجريح أو تعداد لعيوب ومثالب ونقائص لا تنتهي. أي أن يكون قد حقق مستوى يعتبر على أساسه النقد أنه التحليل الدقيق بغية تحديد موطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية إلى وجود العيوب والنواقص. وكل نقد يلتزم بهذا المفهوم لابد أن يكون هادفا في تدرجه، وإيجابيا في حصيلته مهما بدا، لأول وهلة، سلبيا وقاسيا 5. علينا مناقشة كل هذه القضايا مناقشة جادة وحازمة، من أجل تحديد الخلل وجوهر الأزمة التي نعيشها، متفادين منهج التبسيطية والذي أدى في سابق الأيام إلى العجز عن بلورة تصورات مطابقة للواقع، لا أن نترك سياستنا تتحدد بما يتحدث به عنا أصحاب الطهارة ومدعي النبوة الذين لا يخطئون. علينا أن نسير في طريقنا بتصميم وثقة دون أن نعير انتباهنا لما ينسجه عنا الصياحون العاجزون من دعاية مسمومة وحكايات من وحي خيالاتهم المريضة. فبالعمل التنظيمي اليومي والدراسة المجدة، نستطيع أن نتحول من الجهل إلى المعرفة أو من المعرفة الزهيدة إلى معرفة غزيرة، ومن التطبيق الأعمى للماركسية إلى تطبيق حاذق لها ؛ فمن العبث القول بأن للشباب دورا في إخراج بلاده من التخلف، قبل أن يرتفع بنفسه إلى مستوى المهمات الحقيقية الملقاة على عاتقه. فدور الشباب في البلاد المتخلفة إذن، هو أولا وقبل كل شيء محاربة التخلف في نفسه، في فكره وميولاته وسلوكه واهتماماته 6 .

- إشهار -

إن عناصر اشتراكية ديمقراطية هامة في حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي قد اشتد عودها بفعل عملها الذؤوب الحرفي وتمرسها العملي المحلي. وقد بلغ نشاطها مستوى متقدا من التطور، ولكن، بفعل هذا الطابع الحرفي 7 ، تظل جملة كاملة من مظاهر الحركة النضالية المغربية مجرد أحداث محلية، وتفقد الكثير من قيمتها. بل أكثر من ذلك تضيع في بيئة ضيقة منزوية وتفضي إلى مبالغة فائقة للخصوصيات المحلية. ما نحتاجه الآن هو تنظيمها وتركيز كل هذه الأنشطة المحلية في عمل حزب واحد. وأقول اشتراكية ديمقراطية ليس بحكم معرفتها وإلمامها بالماركسية كعلم ولكن بحكم قراءتنا لعملها الموضوعي. فالماركسية أداة تحليل للواقع الموضوعي وليست أداة للتأثير عليه.
وطبيعي، منذ الوهلة الأولى، لسماعنا عن فرد ماركسي، تحيلنا على أن هذا الفرد قد أصبح ماركسيا باكتسابه مجمل المعارف الواردة في الكتب والكراريس والمؤلفات الإشتراكية، ولكن مثل هذا التعريف للماركسي غير كاف. فلو كانت دراسة الإشتراكية تنحصر في قراءة ما هو وارد في الكتب، لأنتجنا فيالق جرارة من الإشتراكيين ولما كانت الأحوال على ما هي عليه. ومثل هذا الفهم والتحليل، كما هو واضح اليوم، قد ألحق بالحركة الإشتراكية الديمقراطية المغربية كوارث لا تحصى ولا تعد، لأن هؤلاء القوم الذين تعلموا وقرئو ما في الكتب والكراريس الإشتراكية، قد ظهروا مما لا شك فيه، عاجزين عن تنسيق جميع هذه المعارف وربطها بالواقع الملموس حقا. وهذه الطريقة في التعلم هي من أفدح الشرور في مجتمعنا الشبه إقطاعي الحالي. إنها القطيعة التامة بين الكتاب والحياة العملية، إذ توجد لدينا في المكتبات والمدارس والجامعات على الدوام، كتب تعرض كل شيء على ما يرام عن هذا المجتمع المستعمر الشبه مستعمر البئيس.

ولهذا، فإن مقالاتنا وخطاباتنا والكتب، وجب ألا تكون تكرارا لما تم تكريسه عن الإشتراكية من طرف الآلة الإعلامية الإمبريالية بدون أي وجه حق، إذ وجب عليها أن تكون مرتبطة بعملنا اليومي السياسي التنظيمي. فبدون عمل، بدون نضال، ليس ثمة أي قيمة للمعرفة الموجودة في الكتب الإشتراكية، إذ أنها ستكون استمرارا فاشلا لهذه القطيعة الممنهجة، بين النظرية والممارسة. فحذاري أن نصبح كالمثقفين الخائنين الذين تحدث عنهم لينين، لا عن جبن فحسب، بل عن أنانية أيضاً، عن خوف من أن يصبحوا في فوضى من أمرهم، فتنهار النظرية التى يتمسكون بها إذا ما اصطدمت بالتطبيق العملي.

إن هذه النواة الإشتراكية الديمقراطية بمثل هذه الحنكة في التطبيق العملي للنظرية، هي النواة التي يحتاجها اليوم حزبنا لقيادة هذا الصراع، من أجل بناء مجتمع العدالة الإجتماعية في أفق البناء الإشتراكي المنشود. والنواة المقصودة هنا عملا، هي المناضلات والمناضلون المتميزون بالقدرة على تتبع ومعرفة مزاج الجماهير والفئات المتأخرة وإلهامها، وتوجيه انفعالاتها في الوقفات والمسيرات المحلية والوطنية، هي المناضلات والمناضلون المتميزون بالقدرة على استقطاب الذوات الحيوية والطلائع الفئوية وتنظيمها، هي المناضلات والمناضلون المتميزون بالقدرة على حصر وتجميع المعلومات والمعطيات السياسية للبلاد في ما يخص الأحداث والسياسات العمومية، هي المناضلات والمناضلون المتميزون بالنظرة العلمية إلى العالم والذين تخلصوا من النظرة المثالية وتأثير الميتافيزيقا عليهم، فبتوفر مثل هذه النواة المناضلة فقط يمكن بناء العمود الفقري للحزب تنظيميا وتحقيق وحدة وتلاحم الصفوف فكرا وإرادة وترسيخ القاعدة الجماهيرية للحزب الذي نريد.

فلا يمكن أن يصبح طليعة للقوى المناضلة المغربية في واقعنا الحالي المأزوم غير الحزب الذي يسترشد بنظرية علمية حقا، يستطيع بجوهرها أن يسترعي انتباه الشعب كله، خاصة في ظل هذه الأزمة الخانقة من ارتفاع مهول في الأسعار، من تزايد في اعتقالات المدونين والصحفيين والمناضلين، من تضييق على الحقوق والحريات، من ازدياد كبير في المعطلين عن العمل، من تفشي ظاهرة التسول وتحولها إلى مهنة قارة لدى الكثيرين ولو اختلفت الطرق، من قطون المئات من أبناء الشعب المغربي وذويهم بشكل دائم في الشوارع والأزقة، من نزوح الآلاف من الشباب عن بلادهم نحو المجهول وتحول أغلبهم إلى طعوم للأسماك في أعالي البحار، والشعب لن يتوجه إلينا بالشكوى إلا عندما يرى أنها ستكون ذات مفعول وتأثير، وأننا فعلا قوة سياسية وازنة.

أيها السادة الكرام، لكيما نصبح مثل هذه القوة في نظر المهمشين والمقصيين والكادحين، لا يكفي ادعاؤنا أننا حزب الشعب والطبقة، بل ينبغي علينا أن نعمل بجد وإصرار على رفع مستوى وعينا ومبادرتنا وهمتنا. إن الملايين والملايين من جماهير شعبنا لفي حركة دائمة ولن تتوقف. لقد راكم شعبنا الصامد والأبي، عقودا من الخيبات والإنتكاسات، بفعل السياسات الطبقية المتبعة، والتي تخدم مصالح أقلية معدودة على رؤوس الأصابع لم تعد تخفى على أحد، ما ساهم في إضعاف حماس الجماهير وفقدان الثقة التامة في كل عمل حزبي سياسي جاد، ناهيك عن الإعلام المتوه والموجه، وتدمير المدرسة العمومية وكوادرها، ما عطل عملية محو الأمية، وانتشار الأمية الوظيفية بين المتعلمين. فلا يحاسبن أحد شعبا لم يستشعر بعد وجود ممثلين حقيقين لاشكالاته ومعاناته اليومية واحتياجاته، لم يجد عقولا قادرة على تنظيم عمل واسع ومركز ومنسجم في آن واحد يسمح باستعمال جميع القوى حتى أكثرها تفاهة، لم يجد حزبا قوية دعائمه، تضجّر من أحزاب طالما تغنت بخيبات الماضي وقوة عدوها، رافعة يافطة الإشتراكية دون ممارسة، ضعيفة التكوين الايديولوجي كوادرها، مصابة بالسياسة المصيبة للكوادر بتعبير ديمتروف 8 ، كوادرغير قادرة على تربية هذا الشعب وتحريك طاقاته الثورية الكامنة في أعماقه، لتحويلها إلى قوة فعالة لتمحو بقايا رواسب السيطرة والرعب والخذلان وكل مظاهر الإستغلال التي عاشها ولا زال.

” إن المصائب والمحن التي تعانيها أمتنا هي في غاية الشدة، ولا يمكن أن يقود أمتنا إلى طريق التحرر إلا الموقف العلمي وروح تقدير المسؤولية. ليس هناك سوى حقيقة واحدة، ولكن من الذي توصل إليها فعلا فهذه مسألة لا يحددها التبجح الذاتي بل تحددها الممارسة الموضوعية. فإن الممارسة الثورية للملايين والملايين من الشعب هي وحدها مقياس الحقيقة. 9 ” وعليه، فليس ثمة أوهام لدى الشعب كي يكافئ الذين يساعدون على تخديره بها كما يدعي أصحابنا المثاليون. لقد قاصى شعبنا الويلات إلى الآن، ما جعل حدسه التلقائي مصقولا وقادرا بما يكفي على التمييز بين الصديق من العدو، بين الممارسة الصادقة من الخطاب المنافق، على التمييز الجيد والعاقل بين المدافع حقا عن المستغل وبين المستغلين والخونة. ولعلمكم، إننا نقدر أشد التقدير صاحب الحذاء الذي يناضل مع الحفاة ليحصلوا على أحذية، ولكننا نثق أشد الثقة بحافي القدمين الذي يناضل من أجل تحصين حذائه، فهو الوحيد القادر على استيعاب محنته ومرارتها، هو الوحيد الذي يعي ماذا يعني للمرء أن يسير حافيا، هو الوحيد القادر على معرفة ما مدى ارتباطه بالأرض. وفي الأخير، هو الوحيد القادر على خوض نضاله دون تخوف أو تراجع لغاية تحصين مكتسبه، وهو العيش بعز وكرامة، وليس فحسب نعلا يرتديه 10 .

أيها الرفيقات والرفاق، إن التناقضات الكامنة في باطن الأشياء هي التي تسبب تطورها، أما الأسباب الخارجية فهي فقط عوامل مساعدة على هذا التطور. ما يحيلنا إلى تقوية ذواتنا وعلاقاتنا ومن تم تنظيمنا، إذ ينبغي علينا استقبال أي محاولة لتعليق فشل الماضي على أية قوى خارجية كيفما كانت، دون أي نقد ذاتي يذكر، ببسمة سخرية وشفقة. إن من أهم واجباتنا اليوم، فضح الدعايات المضللة التي ينشرها الرجعيون وكذلك العاجزون من أوساطنا وصفوفنا عن ثبات الأوضاع على ما هي عليه واستحالة التغيير الإجتماعي وغير ذلك من هرطقات، وكذلك فضح فكرة الميتافيزيقا المغلوطة ونشر الدياليكتيك الكامن في الأشياء والعمل على التعجيل بتحول الأشياء. بحيث نساعد رفاقنا والجماهير كافة، على أن تفهم أن التغيير الإجتماعي ليس ضرورة كل الضرورة فحسب بل ممكنا كل الإمكان.

” إن حزبنا الذي نريد واضحا في آفاقه، ومتماسكا في تنظيمه، ينبغي له أن يستخلص النتيجة المنطقية لوجوده . ولذلك وجب علينا أن نوجه عناية خاصة للتربية الأيديولوجية في الحزب، والتي بدونها سوف تبقى اختياراتنا في حيز الآمال ومن قبيل التمنيات العاطفية. 11 ” ختاما ومن هذا المنطلق، ينبغي علينا أن نبني فيدرالية اليسار الديمقراطي كما يبني البناؤون الصروح الكبيرة، كما تبنى المصانع الضخمة، كما تبنى السدود العظيمة، كما بنيت الأهرامات المهيبة. نريد حزبا حديدي النظام، حزبا يستمد تركيبته من اختياراته الأيديولوجية، حزبا فروعه تغطي جميع المناطق المغربية، شرقا وغربا شمالا وجنوبا، جنب السهول وفوق الجبال، في الأحياء المهمشة الحضرية وفي قلب القرى، حزبا يقوده طلائع العاملين والفلاحين وكل الكادحين، حزبا للجماهير الغفيرة حيث يجد كل فرد مجالا للعمل الإيجابي المنظم، في جو قوامه الوضوح التام والحماس، حزبا مدعوما بكل ما في الطبقة من مفكر وشريف ومتفان، لتحقيق مطالب شعبنا العميقة في التحرر والتقدم والرفاهية والسلام. فليس حلما أو حماسا أرعنا أو ضربا من الطوباوية بناء ماكينة حزبية صلبة ومنيعة، طالما الجدية والنظرية والرغبة متوفرة، وإلا أصبحنا حزب حلقة وزمرة من المثقفين الثرثارين عديمي الفائدة والمنفعة المهدرين الكثير من الوقت والطاقة في الضجيج الراديكالي، ممن يتخلقون بأسوأ صفات الفئويين البرجوازيين الصغار المتفسخين، من تشتت وميوعة وفردية، من تأرجح بين الحماسة والخمود، من عدم القدرة على الصمود والإتحاد والأعمال المنسقة.

وفي نفس الوقت الذي نسهر فيه على تحسين أساليب عملنا داخل حزبنا وتقوية هذه الأداة التي صهرتها حتى اللحظة كثير من المحن والتضحيات، فإن علينا ألا ننسى أبدا أننا لسنا في خدمة الحزب بل في خدمة مجموع ” ولاد الشعب ” ضد ” أعداء الشعب ” 12

عادل البوعمريعضو اللجنة الإقليمية بمراكش – حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي – المغرب

مراجع.
1 – مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية ، فلاديمير لينين .
2 – ملاحظات حول أزمة الماركسيين في الوطن العربي (فصل من كتاب مشكلات الماركسية في الوطني العربي ” الصادر عن دار التكوين في دمشق) ، سلامة كيلة .
3 – ثورة ماركس في نظرية المعرفة . كتاب الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية ، الطبعة الأولى 1990 .(ص 93_143) ، عبد السلام المودن .
4 – حول الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية . احتفالا بالذكرى السنوية الثامنة والعشرين للحزب الشيوعي الصيني . حزيران 1949 ، ماوتسي تونغ .
5 – النقد الذاتي بعد الهزيمة ، مقدمة الكاتب . صادق جلال الأعظم . (ملاحظة: تم تغيير – التفكير العربي الواعي بتفكير رفاقنا الواعي – علاقة بسياق الورقة وكذلك اختلافنا الجذري مع المنطق الإشتراكي العروبي الذي يقصي كل مكونات الأمة المعنية بالصراع الطبقي في أوطانها)
6 – دور الشباب في البلدان المتخلفة، تعميق الوعي بالتخلف وتوجيهه ليتحول إلى فعل . (ألقيت هذه المحاضرة في الدار البيضاء في ديسمبر عام 1967 بدعوة من فرع الجمعية المغربية لتربية الشبيبة بنفس المدينة، ونشرتها في مجلة أقلام في العدد 6 سنة 1968) ، محمد عابد الجابري .
7 – عمل الإقتصاديين الحرفي وتنظيم الثورين ، ما العمل ؟ ، فبراير 1902 ، فلاديمير لينين .
8 – في الكادر. تفاعلا مع تقرير اللجنة التنفيذية في مؤتمر الأممية الشيوعية. جورجي ديمتروف (رئيس وزراء بلغاريا 23 نونبر 1946 – 2 يوليو 1949 وعضو مجلس السوفييت الأعلى)
9 – حول الديمقراطية الجديدة . يناير 1940 ، ماوتسي تونغ
10 – نقضا لمقولة تروتسكي الشائعة والتي يقول فيها : “لا أثق بحافي القدمين الذي يناضل من أجل الحصول على حذاء، لكني أثق بالذي يرتدي حذاء ويناضل من أجل حصول الحفاة على أحذية” . وجدت فيها أن الآلة الإعلامية الإمبريالية أشاعتها عن قصد، مما صنع هوة عظمى بين الشعوب والمناضلين ، وكذلك لتكريس منطق قيادة البرجوازية الصغرى لهذا الصراع، الشيء الذي أثبت التاريخ عكسه. ولنا في هذا الصدد ورقة قيد التنفيذ مستقبلا.
11 – الإختيار الثوري بالمغرب. التقرير المقدم للكتابة العامة للإتحاد الوطني للقوات الشعبية في شهر ماي 1962 والذي تم نشره بعدها في كتيب سنة 1965 . المهدي بن بركة
12 – نفس المرجع السابق، بتصرف.

إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا
أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد