خطاب الجدية.. أحزاب “تتجاهل” الخُطب الملكية
خطاب الجدية هو الخطاب رقم 101 من بين الخُطب، التي وجهها الملك محمد السادس للشعب، على مدى 24 عامًا من حكمه، فضلا عن عشرات الرسائل الملكية وبلاغات الديوان الملكي، إلاّ أن كل هذه الخُطب والرسائل والبلاغات لم تُسعف الجالس على العرش ليُغير من “طينة” الطبقة السياسية “الخالدة”، التي ورث جلها عن والده الملك الراحل الحسن الثاني…
وفي المقابل، وعلى مدى 24 عامًا أيضا من حكم الملك محمد السادس، تجاهلت هذه الطبقة السياسية خطاباته ورسائله وبلاغاته، ولم تُعرها أي اهتمام، بل بالعكس عمدت وتعمّدت “التمرد” على كل ما قاله الملك من توجيهات وتعليمات وأوامر، وقامت بمخالفتها كلّها.
ولذلك، نجد أن الملك محمد السادس، في الذكرى الرابعة والعشرين لجلوسه على العرش، عاد ليقول لهم إن “الكيل طفح”، حين عبّر عن تذمّره من هذه النخبة “المستخلدة”، التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتطور في الحياة السياسية، بل غيّرت من حالها هي بفضل نهبها للمال العام باستغلال المناصب التي تحتلها في مختلف مكامن الدولة.
هكذا اضطر الملك لأن يقول لها، في أول خطاب يفتتح به السنة 24 من حكمه، إنها “طبقة” لم تكن “جدية”، وليست “جدِّية” على الإطلاق، مما دعا الجالس على العرش إلى اشتراط شرط “الجدية” في خطابه الجديد هذا، وطالب الجميع بـ”التحلي بالجدية والتفاني”، وذلك لـ”الانتقال إلى مرحلة جديدة من التنمية الشاملة”.
إذا كان الملك محمد السادس قد جعل من “الجدية” مطلبه الأساسي، في خطابه الجديد، فلأنه يريد من الجميع أن يتسم بها، كُل من موقعه، والمؤكد، أنه بهذا المبدأ، في حال توفّره، سيهيّء شروط الفعل الجاد والمثمر والنوعي، الذي سيمكّن من إزاحة هؤلاء “الخالدين” و”المستخلدين”، الذين عاثوا فسادا في البلاد والعباد.
والظاهر أن الملك، له تقدير و”حدس” أن هذه “الطبقة” ستصمّ آذانها عن هذا الخطاب، أيضا، ولهذا السبب بالذات، في ما أعتقد، سنجد الملك “اضطر” إلى أن يكرّر على أسماعهم كلمة “الجدِّية” 14 مرة، بعدما لم تنفع معهم خطابات “الغمزة”…
وهذا أمر مثير وخطير، إلى الحد الذي بات يُخيّل لي أنه، بعد هذا العدد الهائل من الخطابات والرسائل الملكية وبلاغات القصر، وأكثر من 24 سنة من الحكم، والملك يُلح ويصرّ ويشدّد على ضرورة تأهيل الأحزاب وضخ دماء جديدة، تُستبدل بها هذه النخبة السياسية “الخالدة” و”الفاشلة” بشهادة الملك نفسه، لم يتبقَّ لنا سوى أن نرى يومًا الجالس على العرش يخوض “وقفات احتجاجية” أمام مقرّات هذه الأحزاب لمُطالبة قادتها “الدائمين” بالرحيل…
لماذا “نتصوّر” كل هذا؟ لأن الملك محمد السادس، في العديد من خطاباته، ثار غضبا على هذه النخبة الحزبية الفاسدة، التي سئم منها وذهب بعيدًا إلى حد الاعلان رسميًا عن فقدانه والشعب الثقة فيها، خصوصًا في مسؤوليها “المخادعين”، وحذّر الملك محمد السادس الشعب منهم قائلًا إن هؤلاء كل ما يهمهم هو قضاء مصالحهم الخاصة بشتى الأساليب…
ومن طرائف المشهد السياسي المغربي، أن هذه الأحزاب، التي يدينها الملك في خطاباته، هي نفسها، التي تخرج، ثواني بعد كل خطاب، لتدبّج مواقف التثمين والتأييد بعبارات الولاء والمديح، وهكذا يجد المرء نفسه أمام مسؤولين حزبيين يثمّنون إدانة الملك لهم ولسلوكاتهم ومواقفهم، دون أن يهز ذلك شعرة في رؤوسهم، بل تراهم يثمّنون حُكم الملك عليهم بـ”الإدانة” وهم يبتسمون، طبعا ليس لإدانة الملك لهم، بل للأموال، التي راكموها، هم وآباؤهم من قبلهم، بمختلف أساليب الاحتيال والريع والفساد…
إذا كان الملك محمد السادس، مباشرة بعد اعتلائه العرش، قد أعلن في خطاب له بالدارالبيضاء يوم 12 أكتوبر 1999، عن “المفهوم الجديد للسلطة”، فلأن الملك كان يراهن على الأحزاب ومسؤوليها، ليكونوا سندا له في بلورة “المفهوم (الجدِّي) للسلطة”، وحدّد جوهره في “رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية، والمحافظة على السلم الاجتماعي”.. الملك محمد السادس، وهو شاب، كانت شعارات “التقدم والدمقرطة” وشعارات “البناء والنماء”، تتردد على مسامعه، فاتسم خيرا في الأحزاب، “كتلةً” و”وفاقًا”، أي الأحزاب التقليدية، “الوطنية” و”الإدارية”، على حد سواء، لتواكب معه التحولات التي يريد، وترتقي معه إلى رفع رهاناته وتحدياته، في عملية بناء جماعية لمغرب جديد ديمقراطي حداثي، يطبع به الملك مرحلته، ويضمن به، أيضا، مرورًا سلسًا لولي عهده في ظل استمرار السلالة العلوية…
دور الأحزاب، خصوصًا تلك التي كانت لها مواقع متنامية في الداخل وامتداد فاعل في الخارج، سيكون دورًا مفصليا، بالأساس، في المساهمة في الحد من نزيف الثروة، التي كانت تنهب فيها كلٌّ من فرنسا وإسبانيا، بالخصوص، عن طريق برنامج الخوصصة، الذي كان الملك الراحل الحسن الثاني أعلنه سنة 1988، لإسكات هاتين الدولتين الجارتين اللتين كانتا على رأس الدول، التي كانت تؤمّن مصالحها بتهديد الملك الحسن الثاني بملفّات استخباراتية، ثم تصاعدت التهديدات في أعقاب صدور كتاب “صديقنا الملك”، الذي فضح فيه الفرنسي جيل بيرو، فظاعات السجون والمعتقلات السرية الرهيبة، التي ظل الحسن الثاني ينكر وجودها طيلة حياته، وأعقبته عائلة أوفقير، التي كشفت جحيم التنكيل، الذي تعرضت له، هي وكل من سوّلت له نفسه معارضة الملك وقتئذ.
انطلق برنامج الخوصصة، عمليا، في سنة 1993، وتواصلت سنويا، منذ ذلك التاريخ، وشمِلت العديد من المؤسسات والمنشآت العمومية، التي تمّ بيعها تِباعًا، وكان ذلك ثَمَنَ ضمانِ إسبانيا وفرنسا انتقالا سلسا وآمنا لجلوس ولي العهد على عرش مملكة المغرب، وثَمَنَ الاستقبالِ الحافلِ للملك الراحل الحسن الثاني بالجمعية الوطنية الفرنسية، وإعطائه الكلمة ليخاطب برلمانيي “إعطاء الدروس”، الذين سرعان ما غَضُّوا الطرف والبصر، في نفاق كبير، على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي كانت تخترق مجمل هياكل البلاد، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتي كانت عنوانا لطبيعة حكم نظام الحسن الثاني، وكان أولئك البرلمانيون أنفسهم يستعملونها في الابتزاز لصالح بلدهم…
لكن ما أن أغلق الملك محمد السادس “الصنبور” في وجه الفرنسيين أولًا، حتى ثارت ثائرتهم وبدأت في ابتزاز المغرب، عبر حملات معروفة، حينئذ، وفي صدارتها حملة التشكيك في شرعية الملك، الذي كان قد اعتلى العرش حديثًا… لقد كان يُنتظر أن تلعب الأحزاب دورها، وتتحمّل مسؤوليتها، في حماية ثروات البلاد، التي لا تستسيغ أوروبا ألاّ تستمر في نهبها، إلاّ أن هذه الأحزاب أخفقت في أول امتحان لها في العهد الجديد، خصوصًا أن سفارات تلك الدول، كانت تعرف تزوير الانتخابات، التي كانت عملية ممنهجة يقوم بها وزير الداخلية القوي الراحل إدريس البصري للتحكّم في خريطة المشهد السياسي، بالإتفاق مع قادة هذه الأحزاب، كما أن السفارات تلك كانت تُعِد تقارير بانتظام حول الأحزاب المغربية، وتعرف أن هذه الأحزاب خالية على عروشها، بل وينخرها الفساد، وتتحكم فيها “الفئة الخالدة”، ولذلك لن تستطيع تحقيق نسبة مشاركة مشرفة في استحقاقات 2007، لتحافظ على إيقاع الانتخابات البرلمانية لسنة 2002 حيث سجّلت نسبة مشاركة مهمة وصلت إلى 51.6% من الناخبين المغاربة، لعِب فيها تولّي ملك جديد للحكم، من جهة، ومن جهة أخرى شرعية شعبية قيادة الاتحاد الاشتراكي التي كانت تقود الحكومة،…
تقارير القصر بدورها فطنت إلى فراغ الأحزاب، خصوصًا دخول المغرب في دوامة الحرب على الإرهاب، وعودة المغاربة الأفغان للمغرب، واستيقاظ الخلايا النائمة، والتفجيرات التي طالت المغرب، كل هذا في ظل “تجهيز” المغرب لحزب إسلامي معتدل، كما حصل في تركيا، تواجه به “زحف” الحركات الإسلامية “المتطرفة” بعدة دول نحو السلطة، بدعم أمريكي أوروبي، كي تخلق الحروب الأهلية تدمر بها بلدانهم ثم تعيد هي إعمارها مقابل ثرواتها، وتتخلص بذلك من شعار “الإسلام هو الحل”، الذي كانت ترفعه الجماعات الإسلامية في ظل حرب أمريكا وأوروبا ضد ما كانت تُسميه “الخطر الأخضر” بعد انتصارها على “الخطر الأحمر”، عبر تفكيك الاتحاد السوفياتي سابقًا.
لم يكن للقصر خيار أمام تداخل وتدافع كل هذه الأمور والأحداث، سوى الخروج لاستباق الأخطار التي قد تحدق بالمغرب، وبملكه، فكان هذا وراء خروج فؤاد عالي الهمة للعمل السياسي من خارج القصر، بعد أن فشلت جمعية دابا 2007، التي وعد صاحبها نور الدين عيوش بتعبئة الشباب للولوج للأحزاب من أجل تقويتها، إلاّ أنه “أولج” ملياري سنتيم في جيبه دون نتيجة تُذكر، وحاول الهمة، مقابل حزب “الباطرونا”، الدفع بإنشاء حزب “عمّالي” يُحرك به المشهد السياسي الراكض، لكن دون جدوى، فخلق الهمة حركته “لكل الديمقراطيين”، التي جمع لها من كل الأطياف، وترشّح بدون انتماء حزبي للانتخابات التشريعية لسنة 2007، وفاز في دائرته بنجرير بمقاعدها الثلاث، إلاّ أن الأحزاب فشلت في القيام بدورها في هذه الانتخابات، كما توقع القصر، ولم تتجاوز نسبة المشاركة 37%، فخرج الملك بأول خطاب للعتاب، حيث طالب، في خطاب افتتاح البرلمان في يوم الجمعة 12 أكتوبر 2007 بـ: “إعادة الاعتبار لنضالية العمل السياسي”، معتبرا أن ذلك لن يتأتى “إلا بالقطيعة مع البؤس، سياسة وواقعا”. و”العمل التنموي الميداني”، ثم استرسل قائلًا “كما أن النيابة عن الأمة ليست امتيازا، أو ريع مركز، أو حصانة لمصالح شخصية، بل هي أمانة جسيمة والتزام بالصالح العام”، ثم صوّب الملك مدفعيته نحو “الإسلاميين”حزب وحركة، طالبا منهم الابتعاد عن “الإغراءات الوهمية والوعود التضليلية، المحرفة لقيم الدين والمواطنة”…
ومن هنا بدأت قصة حزب الأصالة والمعاصرة، وقصة القائمين عليه اليوم..
يتبع…