رجل من الماضي (قصة)


كانت تظن أن باستطاعتها أن تفتش بين أركان ماضيها عن ملامح رجل كان بالأمس البعيد قريبا، يلامس سقف أحلامها وتوقعاتها، وأن باستطاعتها أن تخرج من هذا التجول سالمة دون أن يبقى جزءا من قلبها محصورا بين البابين، وأن هناك لا بد أن تعثر على مكان آمن تستعيد فيه تلك اللقطات الهاربة، وتأتي بحفنة من تلك الأيام في يديها دون أن تفقد عذوبتها السابقة.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    لم تنقطع عن الصحو المصحوب بنوبات فزع كلما تذكرت الجدار ذو الثقوب الضيقة الذي رأته في ماضيها، كان وراءه رجل برائحة مشوشة تكاد تكون مألوفة لديها. كان يحاول جرها من إحدى الثقوب بكل قوته، كانت تحس بالاختناق وكأن صخرا ثقيلا يجثم أنفاسها، لكنها لم تتوان لحظة عن مساعدته في جرها حتى تستطيع سماع صوته وتطرد به الظلام الذي يحيطها. كانت كمن علق بين السماء والأرض، رأسها بقي في الماضي، وباقي الجسد في الحاضر.

    كل الرجال الذين ظهروا أمامها لم يخلفوا جرحا بالعمق الذي أرادته، كأنهم يتزحلقون فوق أراضيها بزلاجتين لم يتركا أثرا. كانت تنتظره هو، وحده من يستطيع أن يفجر رغبتها في الحب وترتمي فوقه بكل ثقل أحزانها. لكن كيف لهما أن يجتمعا وهما من عالمين مختلفين؟ امرأة من الحاضر مثلها دافئة ومراوغة، لا يزال في قلبها متسع للحياة وفي عينيها شغف وبريق لم يلمعا بعد. ورجل من الماضي مثله، يجتاح حاضرها بطغيان، جريء في الحب والهجر، يجيد الاختباء بين دروب الماضي، يحب المفاجآت ويعشق الحكايات المفتوحة والناقصة.

    - إشهار -

    كان لا بد لها أن تأتي بسكين من المطبخ وتفتح الغرز القديمة التي جمعت فيما مضى قلبها المكسور وتنقب عنه هناك بين آثار الجروح. كانت تريده أن يحضر بقوة البرق الخاطفة لتخبره أن الحاضر دونه راكد كمداد محبرة، وأنها ربما قد فقدت اليد التي كانت تزيل الغبار عن ذكرياتها، وأصبحت تلك اليد نفسها من ذكرياتها. كان لا بد لها أن تكتب له رسالة تصل إليه حيث هناك في الماضي البعيد تخبره فيها أن جمالها الذي كان يتباهى به، قد فقد عمقه لأنه أصبح مألوفا خاليا من الدهشة. أ لم يخبرها يوما بأن جمالها يزعجه؟ إنها تتذكر جيدا ردة فعلها، لقد انفجرت غاضبة في وجهه، لكنه أضاف بعدما قبل يدها “جمالك الذي يزعجني يذكرني دائما بالعمق الذي أبحث عنه”.

    كانت تعتقد أنها فقدت جزءا كبيرا من تفاصيله الأخرى، كان كثير الحركة بحيث يصعب الإمساك به، إنها تتوق الآن إلى مجالسته، والتركيز لهمسه ولمسه، إنها تطلبه الآن حيا أو ميتا، تنشده في صلواتها، كانت تؤمن بأنها ستعيش قصة حب رائعة، ولا بد أن يكون وراء هذه القصة حب مدمر يراقص الموت.

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد