.. حتى يشيب الغراب
ها نحن نعود من جديد إلى النهارات القصيرة وليالي السهاد.
مع هذه العودة، تعود أيها الرجل إلى أيام تركتها خلفك منذ عقود، وهي الأكل عند “البقال”، حيث تكون مكونات وجبة العشاء، سردين أو بيض، وفي بعض الأحيان خلطة بين الطماطم والبصل.
في ذلك الزمن البعيد كانت وجباتنا من بقال يوجد قبالة ” الحي الجامعي مولاي إسماعيل”، وقتها لم تكن هناك جائحة أو فيروسات، لكن كانت المشكلة في جيوبنا التي نسج بداخلها العنكبوت خيوطه.
في تلك الأيام الجميلة تعجبنا كثيراً عندما وجدنا أن علب السردين هي الأرخص، إذ إن السردين يأكله في بلادنا الميسورون.
كان “عابد” صاحب الدكان، وهو من سوس، يعاملنا معاملة خاصة، وعلى الرغم من أنه كان سعيداً بالرواج الذي يحققه معنا، فإنه ظل حائراً لذلك “الحب” الذي يكنه أولئك الفتية للسردين.
كنا إذا لم نأكل السردين في الغداء نتناوله حتماً في العشاء. وعابد يتابع نهمنا بهذه الوجبة مستغرباً متعجباً.
ما إن يرانا نخرج من باب الحي باتجاه دكانه حتى يشرع في فتح علب السردين.
كان يسألنا سؤالاً واحداً: بالمطيشة أم بالزيت؟
لم نكن نعرف معنى كلمة “مطيشة”، فنقول بالزيت حتى لا تفسد علينا هذه “المطيشة” وجبة السردين اللذيذة.
ذات يوم اكتشف أحدنا أن” المطيشة” هي الطماطم، فتحولنا جميعاً إلى “المطيشة”. تعجب عابد من ذلك ولم يدرك لماذا تركنا “سردين الزيت” وأصبحنا نأكل “سردين الطماطم”.
العودة إلى الجدران الصماء بسبب الإغلاق تعني العودة إلى السردين والبيض، ويعني كذلك المزيد من القراءة، وإعادة مشاهدة بعض الأفلام، والاستماع للموسيقى.
بشأن القراءة، لدي بعض الأسئلة أطرحها عليكم، بحثاً عن أجوبة.
هل هناك قراءات للصيف وأخرى في الشتاء؟ هل الناس فعلاً ما تزال تقرأ الكتب؟ من أين تقرأ الناس الكتب، هل تطبعها من مواقع الإنترنيت أم أنها تذهب إلى المكتبات لتشتري الكتاب؟
ما هو الكتاب الأكثر مبيعاً حالياً، أو الذي يتوقع أن يبيع في معرض الدار البيضاء الذي نأمل أن ينظم في موعده. لماذا حقق أو سيحقق أعلى مبيعات؟ هل بسبب موضوعه؟ أم بسبب كاتبه؟ أم لأن وسائل الإعلام لفتت إليه الانتباه؟
هل يوجد كاتب يعيش من عائدات كتبه؟
من هو هذا الكاتب وكيف حقق ذلك؟
طرحت على نفسي هذه الأسئلة، وتمنيت أن أجد لها جواباً.
أختم وأقول كما قلت من قبل، هل ستزحف ليالينا نحو الفجر بتؤدة. وهل سنعيش الأرق أم أنه سيحدث العكس، أي أن ننام ساعات طويلة. ظني أن هذا لن يحدث حتى يشيب الغراب.
*****
صورة في الحي الجامعي مولاي اسماعيل في “زمن السردين”، وأخرى في زمن الإغلاق الحالي. شتان ما بين زمان وزمان.