إصـلاح القضاء و تعـزيـز استقلاليته.. ضمـانة لسيـادة القـانـون


تفعيلا لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة والتي أحاطت ورش إصلاح منظومة العدالة ببلدنا بأهمية بالغة، انخرطت الدولة منذ دخولها في تجربة العدالة الانتقالية سنة 2004، في دينامية إصلاح شمولي ومهيكل تقوم على تدبير استراتيجي بعيد المدى لجهاز القضاء، كما أن هذه التدابير تمت مواكبتها بتنصيص قانوني جد متقدم خلال صياغة دستور المملكة الجديد لسنة 2011، حيث أصبحت السلطة القضائية تتميز بالاستقلال التام عن باقي السلط الأخرى، سواء التشريعية أو التنفيذية، وذلك تكريسا لخيارات المجتمع المغربي التي انبثقت عن سيرورة تاريخية حاسمة شارك في أبرز محطاتها الفاعلون السياسيون و الاجتماعيون، إذ طالبت دوما القوى الحية لوطننا في هذا السياق بضرورة تقوية حكم المواطنين في القانون إحقاقا لمبادئ الحريات العامة والكرامة والعدالة الاجتماعية .

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    و في سياق متصل بالموضوع اعتبرت الدولة أن الحريات العامة واحترام مبادئ حقوق الإنسان يعتبران عنصرين متلازمين، وقد ظلا حاضرين على الدوام في صلب كل الإصلاحات والتشريعات القانونية التي تعزز من نفوذ دولة الحق والقانون في إطارها التوجيهي العام للبلاد، وهو الخيار الوحيد والمنشود قمة و قاعدة.

    وفي هذا الصدد شهد مسار تقوية الحريات العامة والحقوق عدة تحولات مجتمعية كبرى ناجعة وفاعلة على مستويات مختلفة لاسيما المؤسسات الموكول إليها أمر إصلاح وتشريع نصوص قوانين ذات صلة بالموضوع ذاته، وبخصوص هذه الصيرورة التاريخية المهمة لابد من الإشارة إلى أن أول محطة تخص هذا النسق الإصلاحي المذكور تعود لدستور سنة 1962 والذي نص صراحة وبوضوح على أن المغرب ظل منخرطا بشكل دائم في احترام المبادئ الأساسية لحماية الحقوق المدنية والسياسية، والنهوض بأوضاعها أمام المنتظم الدولي على كل الأصعدة بمستوياتها معنى و مرامي.

    وقد سارت جل التحولات التي شهدتها البلاد في هذا الشأن في اتجاه حماية كل أشكال الحريات العامة لاسيما حرية الرأي والتعبير والاجتماع والتجول …..إلخ ، غير أن إشكال التظاهر السلمي ظل دائما معلقا على ضرورة الرجوع إلى القانون التنظيمي الذي ينظم ممارسة هذا الحق، علما أن هذا الوضع عكس مواقف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من الموضوع، إذ اعتبرت أهم قوى المجتمع المغربي أن الدساتير المتعاقبة و رغم إقرارها الصريح بهذه الحقوق المذكورة ، بقي أمر التنزيل مرتبط باجتهادات قانونية غير مبررة يسنها المشرع في هذا الصدد ، مما طرح على الدوام نقاشات مجتمعية صرفة تميزت بطابعها الموحد ، حيث أجمع كل المهتمين بخصوص النداءات الدائمة لعموم المغاربة على أن المضي في اتجاه بناء دولة الحريات ، الكرامة و العدالة الاجتماعية يقتضي أساسا جرأة سياسية كبيرة تساهم في التأسيس لثقافة جديدة تقطع مع ممارسات الماضي الأسود ، من خلال حث جل الفاعلين و المتدخلين و المهتمين من أجل اعتماد ممارسات تقوم على الحكامة في تعاطي الدولة مع القضايا التي تندرج في سياق الحريات العامة ، و هنا أستحضر واقعة إدانة نشطاء مدنيين بتيفلت بالحبس النافذ على خلفية متابعة هؤلاء الفاعلين في واقعة الاحتجاج ضد مدير مدرسة خصوصية بالمنطقة ، و هذا طبعا لا يعني بأن الحكم عدد : 412 بالملف رقم : 796/2101/2021 الصادر بتاريخ : 21/09/2022 كان مجانبا للصواب فيما قضى به في مواجهة المتابعين إذ يعتبر اليوم القضاء بابتدائية تيفلت نموذج يحتذى به من حيث الاستقلالية و التجرد و النزاهة و الشفافية ، إذ يبقى الهدف من إدراج هاته الواقعة و تسليط الضوء عليها اعتبار أن القضاء أصدر حكمه في احترام تام للقانون اعتمادا على ما توفر لديه من حجج و وثائق خلال المرحلة الابتدائية  في ظل تسجيل عدم حضور غالبية المشتكى بهم أثناء المحاكمة مما تسبب في عدم قدرة المحكمة الموقرة على الاستماع إليهم من أجل بسط وجهة نظرهم  ، ما يعني أن تدارك هذا الإشكال لا يمكن أن يتم إلا خلال المرحلة الاستئنافية ، و في هذا الإطار شرع دفاع المشتكى به الثامن ” رشيد عقبي ” و هو طالب جامعي بالسنة الثالثة في شعبة الرياضيات و المعلوميات في سلوك مجموعة من الخطوات القانونية لكشف حيثيات و ملابسات واقعة إدانة موكلة بعقوبة سالبة للحرية بلغت مدتها أربعة أشهر حبسا نافذة  .

    لقد حرص الملك محمـد السادس نصره الله على الدعوة الدائمة و المتجددة لكل مؤسسات الدولة من أجل الانخراط المسؤول لكافة مكونات المجتمع المغربي في ورش إصلاح منظومة العدالة ، و ذلك لبلورة تصور استراتيجي ناجع يمكن من الوصول في الأخير إلى إقرار ترسانة إجراءات تعزز من استقلالية القضاء ضمانا لمساواة جميع أفراد المجتمع أمام القانون في كل الظروف و الأحوال ، و في هذا الصدد انخرطت المحكمة الابتدائية لتيفلت في هذا الورش المتجدد ، إذ تم تحصين القضاة عموما من كل أشكال الضغط و الرقابة غير المبررة و ذلك بغية تيسير قيامهم بمهامهم التي يفترض أن تراعي و تحترم مبادئ الاستقلالية إحقاقا للعدالة الاجتماعية ، و بعيدا عن كل محاولات التأثير، كما أنه لم يعد مسموحا على الإطلاق ممارسة أي إجراء ينطوي على عزل مسؤولين قضائيين بدوافع الانتقام أو العقاب من طرف الدولة إذ لا يمكن أن يتم ذلك اليوم منذ تفعيل دستور المملكة الجديد لسنة 2011 إلا بموجب مسطرة تستمد من قوة القاعدة القانونية.

    - إشهار -

    لقد كرس المغرب خيار استقلالية القضاء بشكل واقعي و ملموس من خلال الاعتماد على مجموعة من التدابير القانونية التي تتميز بطابعها الجد متقدم و ذلك بإقرار دستوري صريح ، حيث أن الدولة جعلت التدخل في قرارات القضاء خطا أحمر ، تترتب عنه مجموعة من الجزاءات سعيا لصون كرامة أسرة العدالة بشكل عام و التي من المفروض أن يتمتع رجالها و نساؤها على حد سواء بكل ضمانات التجرد و الحياد و النزاهة لتسهيل مأمورية قيامهم بمهامهم على أحسن وجه دون خضوعهم لأي ضغط أو إكراه من طرف أية جهات كيفما كانت طبيعتها ، و في ذات السياق حرصت النيابة العامة لتيفلت على التصدي الصارم لسماسرة القضاء الذين عرفوا بالمنطقة باستغلالهم لضعف المتقاضين من أجل تعريضهم لكل أشكال النصب و الابتزاز بعلة أنهم تجمعهم علاقات بمسؤولين قضائيين ، لكن سرعان ما يتم كشف زيف ادعاءاتهم و توقيفهم و هناك حالات كبرى كأمثلة دالة تشير إلى التقدم النوعي الذي حققه جهاز القضاء بالمنطقة منذ تعيين وكيل الملك ” محمد شنضيض ” ، كما أنه في حال حدوث تدخلات غير مشروعة في هذا الشأن ، يلزم إشعار المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمثل هذه التجاوزات و الخروقات لتحديد المسؤوليات اللازمة ، و تحريك المساءلة القضائية في حق من ثبت تورطه في قضايا تتعلق بالتأثير على حرية القضاة أثناء مزاولتهم لعملهم.

    و قد حسم الدستور الجديد للمملكة لسنة 2011 ، في جدلية تلقي كافة العاملين في منظومة القضاء الأوامر و التعليمات من مرؤوسيهم ، إذ تم التنصيص الواضح على أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا في إطار القانون و ذلك بموجب مراسلات كتابية يستمد مضمونها في الغالب من القانون ، فيما يستبعد ما غير هذا ضمانا لمبادئ الحريات العامة ، الكرامة و العدالة الاجتماعية ، حيث أن رجال و نساء العدل عموما بات من حقهم التعبير عن آرائهم دون قيود أو شروط مع مراعاة القيم الأخلاقية المطلوبة في هذا الصدد ، كما يجوز اشتراكهم في تنظيمات تكتسي طابعا مهنيا شرط الحرص على حماية واجب الشفافية و كذا النزاهة كمؤشرات تعزز مسار بناء دولة الحق و المؤسسات.

     

    حسن اليوسفي / إعلامي وناشط حقوقي

     

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد