السي احمد المرابط.. ذكرى رجل استثنائي


مقدمة:

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    السي أحمد المرابط هو ذلك الشخص الذي ترغب في لقائه كلما زرت مدينة تطوان. فبالاضافة إلى الهم المشترك الذي يجمعنا تبقى المحبة والصدق رأسماله الثابت. كيف لا ووالده تقلد، بالإضافة إلى وزارة الأوقاف، أمانة مجلس الأمناء بالحكومة الريفية، أمين بيت مال الريفيين آنذاك. كما ورث الصدق من والدته التي كانت تقبض على مفتاح خزينة المال. السي أحمد سليل المدرسة الخطابية للجهاد والصدق.

    عندما أحل بمدينة تطوان وأهاتفه يستقبلني بفرح، ليخاطبني: أهلا با جمال.. بعد قليل في المقهى المعلومة حدا ‘الخاصة’.:”.

    آخر لقائنا بتطوان كان في نهاية شهر مارس 2017، كان لقاء متميزا ومطولا في عز الحراك الشعبي بالريف، الذي كان يطلق عليه “شعلة الوطن”. السي أحمد انخرط تلقائيا في الحراكات الشبابية الشعبية ( 20 فبراير وحراك الريف)، ولا يعطيك إحساسا على وجود فارق في السن مهما كنت أصغر منه.

    عندما توادعنا والوقت يقترب من منتصف الليل، سلمت له قرصا (نسخة) من شريط أنجزناه بمشاركته من داخل مخفر دار بريشة صيف 2015 (أنظر الصور المرفقة بعدستي).

    السي أحمد مر بمراحل قاسية في مسار حياته، لكنه بقي شامخا ولم ينكسر. فرغم الظلم والعذاب الذي لحق به، لم يقدم طلبه إلى هيأة الإنصاف، آخذا مسافة منها، وهو على وعي تام أن المشروع ليس صادقا. شارك بموازاة ذلك، في جلسات الاستماع التي نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الانسان. جزء من شهادته كانت مخصصة للقاء جمع وزير العدل المغربي وعبد الكريم سنة 58/59 بالقاهرة حول القتل والاختطافات التي كانت آنذاك سائدة بالمغرب وهو كان شاهدا على اللقاء.

    في سياق هذه المقالة سأحاول تسليط الضوء على جزء من كفاحه الطويل تكريما للرجل، على الأقل من زاوية معرفتي به. أخذا بعين الاعتبار أنني أنجزت معه سلسلة من الحوارات بداية السنة الماضية وقبلها حول تجربته. من الطبيعي أن تكون علاقته بعبد الكريم جزءا من هذه المحادثات، لكن التركيز كان أكثر على ما سجلته ذاكرته في هذا المسار بالمغرب، من بينها نفي والده إلى فاس، ونزع أملاكهم بعد أسر عبد الكريم، واختطافه صيف 1973، ومروره بعدة معتقلات وفكرة سفره إلى القاهرة.

    لعنة شارع جنير الفرانكو وبداية الاغتراب بالقاهرة:

    بعد تناولنا الشاي في مقهى ‘الزهرة’، أخذنا وجبة عشاء في مطعم صغير بالشارع المؤدي إلى سينما ابينيذا باقتراح منه. وهو شارع جنيرال فرانكو سابقا. وقبل الدخول إلى المطعم وقف قليلا ليقول لي: شوف أبا جمال لعنة هذا الشارع، هي التي دفعتني للجوء إلى القاهرة سنة 1957، وأنا شاب يافع لم يتجاوز العقد الثاني بعد. ففي سنة 56 كنت مارا من هنا، سمعت شخصا يناديني بالاسم. كان الكوميسير الشياضمي، طالبني الالتحاق به إلى المخفر الغير البعيد من هذا المكان.

    عندما قابلته طلب مني الاشتغال معهم في سلك الشرطة (كوميسير، مخبر). عندما أبديت رفضي بأدب لأنني أردت استكمال دراستي أولا، سألني مباشرة إن كنت قد التقيت بحدو أقشيش قبل أيام في تطوان. كان جوابي بالنفي مما دفعه إلى إرغامي على توقيع التزام مكتوب وتحمل مسؤوليتي إن تأكد العكس. اهتز كياني ويد الغدر بدأت تقترب مني رويدا رويدا، شافونا ولاد لحرام، لأنني كنت قد تناولت فعلا قبل يوم أو يومين وجبة الغذاء (اللوبيا) مع حدو أقشيش في الفدان مباشرة بعد إطلاق سراحه من سجن سبتة، حيث قضى ثلاثة أشهر بعد عودته من مصر. لقد أوصيته بضرورة الاحتياط، وعدم السفر إلى الحسيمة، ولكن لم يعمل بنصيحتي، يقول السي احمد. كانت تطوان حينها تغلي بفرق الموت والاختطافات التي كانت تشرف عليها ” المقاومة الاستقلالية” ( كتائب جنان الرهوني، وقوات جهاز الستيام) بقيادة أحمد الطويل والحاج العتابي والعرفاوي والسكوري والمدني الأعور والآخرين. نفس الشيء تقريبا ورد في شهادة خاصة للراحل خالد مشبال عندما حاولو اختطافه سنة 1958 في الفدان مباشرة بعد عودته من القاهرة إلى تطوان كصحفي وكضابط. أخذا بعين الاعتبار أن أقشيش كان قد رجع من القاهرة كضابط في الجيش المغاربي مكلف بإعادة بناء قوات جيش التحرير بالشمال وشرق المغرب.

    اختطاف وقتل ضباط عبد الكريم العائدين من مصر، وردت ضمن عدة شهادات، من ضمنها مذكرات القائد الراحل الهاشمي الطود، بحيث يقول أن أحد كبار حزب الاستقلال وعد أتباعه بإقامة “المشانق لضباط عبد الكريم العائدين من المشرق في الساحات العمومية”. ص 346. فبالإضافة إلى تصفية حدو اقشيش، تم تصفية ثلاث ضباط آخرين في نفس المدة بطنجة بعد دخولهم من مصر عبر إسبانيا وهم: محمد ابراهيم القاضي، شباطة تركي سعيد و أحمد برر ( خيار الكفاح المسلح ص299). تم تصفيتهم من طرف قوات جهاز ” الستيام” الذي كان يقوده المقاوم الحسين الصغير.

    السي أحمد بقي في دائرة الاستهداف حتى تم اعتقاله بداية 1957 بتهم غريبة يقول السي أحمد، من بينها أن والده، حسب الكوميسير، كان خائنا عندما قبل الاشتغال في جمهورية الريف كوزير، نعمة الخيانة يضيف السي أحمد، وكذا اعتناقه الفكر الجمهوري. مباشرة بعد إطلاق سراحه علم عن طريق زميل له بحصوله على منحة للدراسة بالقاهرة.

    أطلق سراحه بعد يوم أو يومين من المعتقل مع ما رافق ذلك، من تنكيل وترهيب. بعدها مباشرة سيركب السي أحمد أول باخرة فرنسية متجهة من طنجة إلى برشلونة، ثم أخذ باخرة تركية في اتجاه القاهرة. ومع أنه كان حاصل على ما يعادل الباكالوريا في تطوان، وكذا حصوله على المنحة، فتم قبوله بسهولة في جامعة القاهرة بقسم الفلسفة وعلم الاجتماع حتى نال الإجازة. احتضنه مولاي موحند منذ الوهلة الأولى وخاصة عندما علم أنه ابن وزيره في الأوقاف وأمين مجلس الأمناء في حكومة الريف.

    محنة والدي بعد احتلال الريف:

    والده هو السي أحمد امحمد أكارود من زاوية سيدي يوسف ( لوطا) التابعة لإقليم الحسيمة، حيث كان مسقط رأس السي أحمد المرابط حوالي سنة 1938. تغيير اسمه العائلي من “أكارود” إلى ” المرابط” يعود إلى مدير المعهد ( السي شعيب)، الذي كان يدرس فيه السي أحمد بتطوان.

    اشتغل والده كما قلنا وزيرا للأوقاف وأمينا للأمناء في حكومة الريف. مباشرة بعد أسر عبد الكريم عمل الحلفاء على طرد جل أعضاء الحكومة، وقادة المقاومة الريفية خارج الريف مع نزع أملاكهم. وكان والده ضمنهم.

    غادر والده ووالدته الريف مشيا على الأقدام في اتجاه فاس، وذلك حتى لا يسقط أسيرا في يد قوات الاحتلال الاسبانية ويتم إعدامه أو سجنه. والدته كباقي نساء الريف آنذاك قطعت المسافة بدون نعال يقول السي أحمد.

    كانت رحلتهم نحو المجهول في غياب معارف او أفراد عائلة بفاس. قضوا 10 أشهر تقريبا يعيشون بين الأشجار في أحواز فاس بطريقة بدائية. بعد هذه المدة رجعت والدته إلى الريف بينما، والده بقي في فاس للدراسة والاشتغال بمساعدة بعض معارفه. ولأن أملاكهم كانت مصادرة، فكانوا يلتجؤون إلى كراء الأرض لغرس بعض البذور. بقي الحال على هذا المنوال لسنوات حتى استرجعوا أرضهم التي كانت موزعة على الأعيان وخدام الاستعمار.

    السي أحمد لم يكن قد رأى النور حينها بعد طبعا، لكن ذاكرته سجلت كل التفاصيل.

    السي أحمد الشاب بين أحضان عبدالكريم:

    إنه لأحساس جميل أن تكون بين أحضان شخصية نادرة، يقول السي احمد، لأن هذه الفرصة غير متوفرة للجميع.

    أثناء وجوده بجانب عبد الكريم بمصر استطاع الاحتكاك والتعرف على عدة شخصيات بارزة، وكذا مشاركته الأمير لعدة نقاشات ومحادثات همت الماضي المجيد والحاضر المليء بالأحداث والتطوارات. مما جعل من السي أحمد شخصية مخضرمة بامتياز. خاصة أن عبد الكريم كان قبلة للثوار والباحثين وشخصيات سياسية من مختلف الجنسيات.

    من بين المناسبات التي كان حاضرا فيها السي احمد هو اللقاء التاريخي بين عبد الكريم وتشي غيفارا في سفارة المغرب بالقاهرة بحضور السفير الإسباني. السي أحمد يحتفظ بصورة نادرة لهذا اللقاء ضمن أرشيفه الخاص، كما قال لي. فرغم صغر سنه حينها، استطاع مواكبة مجمل التطورات والاحتفاظ بها. ولن تكون هذه الدروس أكثر تعقيدا من دروس الفلسفة اليونانية التي كان يتابعها كطالب في قسم الفلسفة بالقاهرة.

    السي احمد كان محظوظا لأن دفء العائلة الخطابية شمله حتى من طرف عائلة السي عبد السلام الخطابي الذي كان وزيرا للاقتصاد في حكومة الريف، والرئيس المباشر لوالده كأمين المال. ضمن الطرائف التي بقيت عالقة بذهنه حول هذا الأخير هو أن والده ذهب ذات مرة لأخذ راتبه منه فأجابه السي عبد السلام بما يفيد أن المقتنعين والمنخرطين بالمشروع (الثورة) لا يتقاضون أجرا. فامتنع والده منذ تلك اللحظة أخذ راتبه.

    يقول السي أحمد أنه سأل مرة عبد الكريم بشكل تلقائي إن كان “بيتان” من هزمه من خلال توفقه العسكري. فأجابه عبد الكريم أن الفرنسيين طلبوا منه يوما عندما كان في لاريونيون أن يعطي شهادته في حق “ماريشال بيتان الخائن أثناء محاكمته”. فاجابهم :” لن أعطي أية شهادة في حقه لأن ‘بيتان’ ليس هو من هزمني..الخيانة هي من هزمتني:”. هذه العبارة كانت تؤلم السي أحمد، لأن ما وراء الخيانة شراء الذمم من طرف عدو غاصب.

    في سياق حديثنا سألت السي أحمد إن كان عبد الكريم يعلم أن المقاومة استمرت رسميا سنة تقريبا بعد أسره، وأن الجيش الإسباني أعلن في بلاغ رسمي على انتهاء العمليات العسكرية بالريف يوم 10 يوليوز 1927، أي بعد أسر المقاتل الصنهاجي محمد بن علي الخمليشي الملقب ب”سليطن” واستشهاد البطل موح أزذاذ وخريرو. كان جوابه أن عبد الكريم يتذكر جيدا هؤلاء المقاتلين وطبعا وزيره في الدفاع القايد بودرة على شجاعتهم في مقاتلة العدو. وأن عبد الكريم بقي في تواصل مع العديد من رجالاته وضباطه يضيف الراحل. وهذا كان معروف عن عبد الكريم من خلال عدة مصادر من بينها: كتاب الدكتور حسن البدوي، شهادات محمد الرايس، كتاب الهيئة الريفية. السي أحمد كان معجبا بقصة القائد الصنهاجي “سليطن”، الذي رجع ليقود الانتفاضة سنتي 58/59 بجانب الراحل امحمد الحاج سلام أمزيان في منطقة صنهاجة السرارير. لقد تم اعتقاله وتغييبه منذ ذلك الحين، يقول السي أحمد.

    السي احمد كان يواضب على متابعة دروسه بالقاهرة رغم اهتمامه بهموم العباد. كان “العم” عبد الكريم يراقبه كمن يراقب ابنه. حصل ذات مساء أن بقي يتابع حديثا بين عبد الكريم واحد ضيوفه لينبهه عبد الكريم بضرورة الانسحاب والخلود للنوم حتى يكون غدا في الجامعة :” كا أتشذ ذامريقث إنك باش اتكاذ ذوذشا خصباح اتراحذ اتغاض قمانيا وايتكمير:” (=يالله نوض تاكول البيصارة ديالك حتى تنوض غدا بكري لدروسك، هاذشي مايتسلاش:”. ازدادت معزته عند “العم” عبد الكريم بعد نجاحه وتفوقه الدراسي.

    العودة إلى المغرب وبداية المحنة_المؤجلة:

    بعد حصوله على الإجازة سنة 1962 غادر مصر متجها إلى تطوان حيث اشتغل استاذا للفلسفة، ولاحقا موظفا بنيابة التعليم بنفس المدينة. السي أحمد أصبح فعالية مهمة في نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وكما احتفظ بعلاقاته المتميزة مع أبناء وبنات عبد الكريم بالمغرب وخاصة إدريس وابن عمهم الدكتور عمر الخطابي. هذه العلاقة ونشاطه عموما سيضعه في دائرة الاستهداف.

    - إشهار -

    سيتم اعتقال السي احمد بسبب تداعيات المحاولة الانقلابية الثانية وانتفاضة حركة 3 مارس 1973 أو ما يصطلح عليها بأحداث مولاي بوعزة بقيادة الشهيد عمر دهكون.

    يقول السي أحمد: “تم مداهمة منزلي ذات فجر من شهر غشت 1973 بتطوان مع تفتيش دقيق لبيتي بحثا عن السلاح، اقتادوني إلى مخفر تطوان. عند وصولي المخفر بدأ الكوميسير الشياضمي شخصيا في تعذيبي بحثا عن السلاح”. بعد ثلاثة أيام من التعذيب والاهانة تم نقله الى البيضاء، ليقضي ثلاثة أيام الأولى في كوميسارية المعاريف ( مخفر الستيام سابقا) قبل نقله إلى مخفر درب مولاي الشريف، حيث قضى حوالي 9 أشهر الأولى متواصلة تحت التعذيب والاستنطاقات، مع مقابلته بالدكتور عمر الخطابي.

    كانت التهم الموجهة إليه تقارب 10 تهم جنائية ثقيلة من قبيل: التدريب على السلاح وحيازته؛ اعتناق الفكر الجمهوري؛ التنسيق مع الفقيه البصري.. في حوارنا وقفنا مليا عند هذه التهم سائلا السي احمد حول المقصود من التدريب على السلاح وحيازته، وهو لم يكن عسكريا أو ضمن فصيل مسلح؟. أجاب:” شوف با جمال ما تحمقش راسك إنه نص مسرحي رديئ.. يعبر على العبث والتخبط..:”

    بعد أن أمضى 9 أشهر بدرب مولاي الشريف، تم نقله إلى “معتقل المطار” الموجود بجوار مطار الدار البيضاء، حيث قضى حوالي ثلاثة أشهر. هناك التقى برئيس أوطم المناضل عزيز المنبهي، ووالدة ابراهام السرفاتي، وابنتها أفلين السرفاتي، وذلك في إطار الحملة الواسعة التي شملت الطلبة وتنظيمات اليسار المغربي آنذاك.

    لقد مر من هذا المعتقل حوالي 10 آلاف موقوف خلال مدة تواجده هناك، حسب الراحل. أعتقد أنه توصل إلى تحديد هذا الرقم لاحقا بعد إطلاق سراحه، من خلال متابعته ومعارفه. شخصيا لن أستبعد ذلك، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الاعتقالات شملت مناطق وقطاعات واسعة: الطلبة بعد حضر أوطم سنة 73، العسكر، التنظيمات اليسارية، الحركة الاتحادية وأفراد عائلات هؤلاء…

    رئيس المؤتمر 15 لأوطم السي عزيز المنبهي في شهادة خاصة يؤكد ماذهب إليه السي أحمد.

    ويستشف من قصة السي أحمد أن النظام وجدها فرصة ذهبية لتصفية الحسابات وتدشين حملة اعتقالات واسعة في حق كل المعارضين وأحرار البلد، من بينهم المئات من الريف، حسب الراحل. هذا الأمر بقي غائبا عن التدوين والتوثيق.

    سيتم إرجاعه مرة أخرى إلى درب مولاي الشريف بعد قضاءه حوالي ثلاثة أشهر بمخفر المطار. هناك سيوضع في وسط العشرات من معتقلي الأطلس. في لحظة ما أدخلوا عليهم الراحل المحامي علي فهمي. ضحك السي احمد في وجهه مازحا كعادته :” أسيدي علي كل شيء بالصمود يهون .:”.

    إرجاع الدكتور عمر من جديد إلى درب مولاي الشريف:

    يرجع السي احمد سبب اعتقاله، بالدرجة الأولى، إلى رغبتهم في ضرورة إرجاع الدكتور عمر إلى المربع الأول من جديد، بعدما أخذ البراءة بالمحكمة العسكرية بالقنيطرة، وذلك حتى يوحي له أنه متهم في ملف آخر وأن صاحبه هو من أفشى بمعلومات ما أثناء التحقيق تدينه.

    يقول الراحل أن القاضي انصاع مع رغبة بعض قادة الجيش (الدليمي) من أجل إطالة معانات الدكتور عمر. العسكر احتجوا على تبرأته في أفق إطلاق سراحه :”حنا كانشدوهم ودايرين العيب معاهم ونتوما تاتلقوهم..:” حسب أحد جلادي الكاب1، حيث عذب الدكتور عمر، والذي كان يترأسه الدليمي، حسب الراحل.

    يقول الراحل ساخرا، من هذه المسرحية، :”تعرف أبا جمال شكون كان هذا القاضي (رئيس المحكمة العسكرية بالقنيطرة) الذي كان يحاكم الدكتور عمر ودهكون؟ إسمه “محمد اللعبي”، هو الكاتب الخاص لابن عرفة، الذي نصبته السلطات الفرنسية مكان بن يوسف، بل الطامة الكبرى هو محرر عقد بيعة بن عرفة التي باسمها تم عزل بن يوسف وترحيله خارج البلد. سيعينه محمد الخامس قاضيا بعد العفو عنه وعن باقي الخونة.

    مسألة العفو عن الخونة وتعيينهم في وظائف سامية وحساسة بالدولة، كانت نقطة خلاف عميقة بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية آنذاك. بل كانت بداية لصراع بين الطرفين. في شهادة خاصة لأحد المقاومين، الذي تم تعيينه قائدا في إقليم الشاون سنة 1958، أن القصر أقدم على فصل 103 موظف في مختلف المناصب السامية سنة 1963 من بينهم هو، مع حرمانهم من الأجرة الأخيرة والمعاش. وتم تعويضهم بالخونة وخدام الاستعمار يقول محدثي.

    في آخر جلسة محاكمة الدكتور عمر( يوليوز 73) بالمحكمة العسكرية بالقنيطرة، وقبل ارساله إلى درب مولاي الشريف من جدي، سألته النيابة حول رأيه في الملكية. نظر الدكتور عمر مليا وقال في جرأة نادرة: “لأول مرة يطرح عليّ هذا السؤال، فاحتراما لكرامتي، لن أجيبك”. يقول الراحل.

    الراحل تعرف على الدكتور عمر أثناء تواجده بالقاهرة، كان يلتقي به في منزل والده السي عبد السلام. ستتقوى هذه الصداقة بينهما بعد رجوعهما إلى المغرب. رغم أن الدكتور عمر استقر بالقنيطرة بحكم شغله كطبيب جراح والسي أحمد بتطوان لكن العلاقات والزيارات لم تنقطع بينهما. هذه العلاقة كانت ‘نقمة’ على السي احمد وخاصة عند اتهام الدكتور عمر بالضلوع في العملية الانقلابية الثانية بقيادة أمقران.

    إطلاق سراح دجنبر_1974:

    قبل إطلاق سراحه استقبله مدير الدرب آنذاك الجلاد اليوسفي قدور سائلا الراحل: “هل اعجبتك الضيافة والتجربة..:” أجابه الراحل:” كيف تعجبني، وهي جهنم..هذا ظلم.:”. ليرد عليه قدور:” لم نظلم أحدا في تطوان إلا أنت.. زعما لم يجدوا احدا لممارسة عليه هذا الظلم إلا انت..:”.

    بعد أيام قليلة من هذه المقابلة، وبعد 15 شهرا من المخافر السرية، رموه ذات مساء بارد في أحد شوارع البيضاء بملابس رثة خفيفة، وقبل إزالة العصابة على عينيه تم تهديده بالعقاب لو نظر إلى الوراء،” سير نيشان وياوليك تشوف اللور”، مع الدوخة لم يعرف أين يسير وفي أي مكان يوجد لولا المارة.

    تدبر أمره من أجل ايجاد المركوب إلى الرباط، حيث نزل ضيفا على صديقه إدريس الخطابي ( ابن عبد الكريم ). أخذه هذا الأخير إلى الحمام لإزالة الأوساخ المتراكة مع إعطاءه الملابس والأكل والدواء حتى أن استرجع بعض من قوته. السي أحمد لم يكن قوي البنية، لكنه كان قوي المعنويات والقناعات. ما وقع له كان حسابا شاملا على ما تقدم، وما تأخر.

    على ذكر إدريس الخطابي يحكي الراحل قصة ‘طريفة’، حدثت لهذا الأخير مع الحسن الثاني أثناء استقباله بقصر التواركة بالرباط حوالي 1978. بقي إدريس ينتظر الاستقبال لوقت طويل، وهي عادة معروفة عن الحسن الثاني عندما يريد معاقبة وإهانة أحد من “خدامه”، لكن إدريس كان من طينة آخرى، يشبه أباه كما يقال. عند اقتراب المغرب بدأ إدريس، في أداء الصلاة بعد إذن أحد الحراس. يالله بدا الصلاة والحسن الثاني قالهم دخلوه. عندما سمع الملك على أن ‘ضيفه’ مشغول بأداء الصلاة، غضب غضبا شديدا وخاصة أن إدريس جمع كولشي: الظهر والعصر. بدأ الملك بدوره ينتظر على أحر من الجمر في خرق واضح للاعراف المخزنية. سلوك إدريس ربما سابقة، من خلاله قرأ الملك رسائل كثيرة. الاستقبال مر في جو متوتر، لأن حتى إدريس اعتبر الانتظار الطويل إهانة له، وهو ليس من خدام الملك وبالتالي لم يطلب اللقاء به. إدريس انصرف رافضا ما تفضل به الملك من مأذونيات ومصالح.

    خاتمة:

    السي احمد كما عرفته، كمناضل حقوقي في المنتدى، أو كمسؤول في مؤسسة محمد بن عبد الكريم الخطابي المحضورة أو كباحث، يبقى إنسان طيب ومرن ينشد مجتمع العدالة والمواطنة، ما كان يهمه أكثر هو ما تقدمه الدولة وليس شكلها. السي احمد استطاع ان يحتفظ على صفاة ذلك الريفي الصادق رغم الإغراءات.

    السي احمد يمتلك ثقافة واسعة في مجال الفكر والسياسة وحقوق الإنسان، وخاصة التطورات التي شهدتها تطوان سنوات الخمسينات. في هذا الإطار كانت له مشاركة كشاهد، وكباحث في إنجاز شريط حول دار بريشة بحضور ما تبقى من القانطنين داخل هذا المخفر. لقد شارك بمعلومات قيمة حول الجريمة السياسية من خلال احتكاكه بالناجين من بيهم الراحل “كويس” الذي قضى شهورا بين مخفري دار بريشة بتطوان والستيام بالبيضاء، ليطلق سراحه لا حقا بدون محاكمة من سجن لعلو.

    في الأخير، مهما قلنا في حقه فلن تستوفي هذه المقالة حقه. مع التأكيد على أن جزء من الحوار الذي انجزت معه عبر حلقات، كان عن بعد وفي خريف العمر، لذا فإذا كانت هناك من معلومات وجب تصويبها، فبكل فرح. علما أن هذه المعلومات وأخرى كان يجب أن تكون ضمن مذكراته الغير المكتوبة. حبذا لو تم مساعدته في جمع ذاكرته وتوثيقها كما تم مع الراحل الهاشمي الطود أو الفقيه البصري أو اليوسفي…يمكن استدراك الأمر اذا ما تكاثفت الجهود.

    لروحه الرحمة والسكينة ولأهله ورفاقه جميل الصبر.

    الكاتب: جمال الكتابي
    أمستردام 22 يوليوز 2022

    إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.
    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد