زيارة جزر الشيطان.. كليمس “الحاج أليمان”
مشاهدتي لزنازن جزيرتي “رويال” و”سانت جوزيف”، كانت لحظة مؤلمة وفضيعة. آدميون مربوطون بالسلاسل ولا يسمح لهم بالإطلال من باب زنازنهم إلا مرة واحدة في الشهر عند مرور الحجام لحلق رؤوسهم. بل إن زنازن جزيرة سانت جوزيف كانت بدون سقف. فقط قضبان حديد فوق رؤوس المـُدانين. تصور أن الأمطار لا تتوفف تقريبا في هذا البلد، ماعدى بين شهري غشت شتنبر. أما جزيرة الشيطان فلا يسمح زيارتها.
سأتحدث عن هذه الوضعية من خلال الصور في حلقة مقبلة. سأخصص حلقة اليوم للتحدث عن كليمس، ابتداء من موته (تصفيته).
قاعة كليمس وموته:
في هذه القاعة بجزيرة رويال (أكبر الجزر الثلاث)، سقط المقاتل الشهير جوزيف كليمس أوطو المعروف بالحاج أليمان مساء يوم 8 أكتوبر 1938. تم نقله إلى المستشفى العسكري المجاور لاسعافه، لكن الضربة كانت بليغة جدا، ودخل على إثرها في غيبوبة تامة، ولفظ معها انفاسه الأخيرة.
عند ولوجي لهذه المقهى (قاعة متعدد التخصصات) أحسست برهبة المكان. فكان مني وبعض المشرفين عن هذا الفضاء، تنظيم دقيقة حداد على روحه وروح كل من سقط هنا من أجل التحرر والانعتاق. ولضرورة هذه الوقفة أحضرت باقة ورد من شجرة بجانب المقهى، كانت ثمرة المدانين bagnards حسب إحدى السيدات. في مسألة موته رأيين متعارضين:
الرأي الأول:
هو الرأي الرسمي لأجهزة ومؤسسات الدولة الفرنسية، التي تقول إنه انتحر من خلال استيلائه على مسدس أحد الحراس فأفرغه في رأسه. لكن كيف لحارس أن يضع سلاحه الوظيفي في متناول الآخرين؟.
الأجهزة الأمنية الفرنسية والعسكرية صاغت 15 تقريرا أمنيا بصدد موته. حاولت دعم أطروحة الانتحار من خلال ورقة صغيرة قيل عنها تعود لكليمس، وجدوها ضمن أغراضه الخاصة، كتب عليها جملة واحدة :” سئمت هذه الحياة…أريد أن أضع حدا لها..:”. هذه الورقة فعلا موجودة!!.
تصفحت أغلب هذه التقارير الأمنية، ففي سياق إحداها ورد ما يلي:” انتحر كليمس، لكن لم يندم يوما على مشاركته بجانب عبد الكريم، الذي عينه مستشارا عسكريا برتبة جنيرال..”، بالإضافة إلى إشارة تقول إنه أسلم.
رغم أن كليمس اعتبر العدو اللذوذ لفرنسا بانشقاقه عن اللفيف وانضمامه لعبد الكريم، لكن تشهد هذه التقارير كلها بأخلاقه العالية وانضباطه للقانون حتى ولو كان هذا القانون ضده، مما دفعهم إلى ترحيله من سجن جزيرة الشيطان، حيث العزلة القاتلة، إلى جزيرة “رويال” للاشتغال في هذه القاعة التي كانت مـُخصصة حينها فقط للحراس والموظفين الآخرين، لأن مساكنهم توجد كلها هنا، بجزيرة رويال والتي تحولت (مساكنهم) اليوم إلى مأوي للزوار والسياح (أوطيل)..
أخذا بعين الاعتبار أن شارل دوغول أصدر عفوا جزئيا في حق كليمس ماي 1938 لتتحول عقوبته من المؤبد إلى 20 سنة سجنا. لم يكن الوحيد الذي استفاد من هذا العفو.
قرار العفو هذا لم يكن هدية من الجنرال، بحيث سبقته حكومة الجبهة الشعبية في نفس السنة باتخاذ قرارا تاريخيا يتمثل بإغلاق هذه المعتقلات وإرجاع المـُدانين السياسيين إلى المتربول. قرار الحكومة جاء بناء على ملتمس محامي وبرلماني فرنسي لامع (غاستون )، من أصل غويانا.
غويانا، كانت حينها عبارة عن سجن كبير، أبحرت إليها فرنسا خلال 100 سنة (1850-1953)، أكثر من 70 ألف مـُدان من مختلف الأجناس والمستعمرات، لقي أكثر من 50 ألف منهم حتفهم في ظروف مناخية وإنسانية صعبة للغاية، اتسمت بالأعمال الشاقة والعزلة الشديدة في المعتقلات.
من الأمور التي عجلت باستصدار قرار حكومة الجبهة الشعبية، هو صدور كتاب تحت عنوان “المقصلة الجافة” سنة 1938 بأمريكا، لأحد الهاربين (روني)، من هذا الجحيم، بعد حصوله على اللجوء السياسي بأمريكا. تم تغطية مضامين الكتاب (مليون نسخة)، على نطاق واسع من طرف الإعلام الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والعالمي.
فضيحة دولية بكل المقاييس لفرنسا الحرية وحقوق الانسان. مما دفع برئيس الأركان الأمريكي حينها إيزنهاور إلى ربط مشاركته في الحرب العالمية الثانية، بجانب فرنسا والحلفاء بإقفال هذه المعتقلات، لأنها تعدت فضاعات النازية كما قال. كان نفس المطلب للمتطوعين الدوليين المنضوين في إطار حركة “فرنسا الحرية” لتحرير فرنسا من النازية.
هذه التطورات كلها وفرت أرضية لنمو وعي غير مسبوق بضرورة إنهاء احتلال فرنسا للمستعمرات مع إضعاف الحزب الاستعماري الذي أصبح كبيرهم (ماريشال بيتان) يتقدم قوات النازية في احتلال بلده.
هذا الوعي تعزز لاحقا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومعاهدة جنيف الرابعة، ومحاكمة نورنبيرخ لمجرمي الحرب سنة 1946. وكذا تصعيد المقاومة في مناطق عدة من العالم. فعملت الحكومة الفرنسية المؤقتة على إرجاع كل المدانين لأسباب سياسية إلى المتروبول على مراحل، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بين سنتي 1947 و1953، من بينهم عبد الكريم الذي نزل أو أنزل في القاهرة ماي 1947، وكذا إرجاع سجناء فرنسيين معروفين أمثال “سيزنيك” ماي 1947 من غويانا إلى فرنسا.
فقط للاشارة أن ايزنهاور كان يتخوف من تحرر المستعمرات وانضمامها إلى المعسكر الشيوعي لو طال الصراع، لذا كان يعجل فرنسا بانهائه، وليس لأنه تحريري (دراسة نشرت بموقع رقمي بغويانا).
من جانب آخر يبقى انتحار كليمس وارد، ولو بنسبة ضئيلة، لأنه كان ينتظر عفوا شاملا حتى يعود إلى عائلته وإخوته ووالديه، الذين كانت تربطه بهم علاقة حب واحترام (من خلال المراسلات). لأن هذا العفو لا يعني له شيئا أمام القانون الفرنسي القاسي في حق المدانين، بحيث كل من أدين بثمانية سنوات أو أكثر لا يسمح له مغادرة غويانا على مدى الحياة حتى ولو نال حريته، أما من أدين بعقوبة تتراوح بين خمس وسبع سنوات، يفرض عليه قضاء نفس المدة التي أدين بها بغويانا، عند انقضاء محكوميته ويـُسمى doublage مع زيارة الشرطة مرتين في السنة pointage.
الرأي الثاني:
هذا الرأي يرجح تصفيته على انتحاره، وهو لصحفي من غويان، اسمه “سيمون”، نشر مقالة دالة جدا يوم 8 دجنبر 1938 هنا بغويانا ( أي بعد شهرين من رحيل كليمس) يحكي فيها لحظة وصول كليمس وباقي المدانين إلى سجن “سان لوران دوماروني” قادمين من الجزائر على ظهر باخرة “مارتينير” نهاية فبراير 1930. الصحفي سيمون استند في موقفه هذا، إلى الأخبار الرائجة والمتداولة هنا، حينها بين السكان (أغلبهم حراس السجون)، والتي رجحت تصفيته وليس انتحاره.
يقول بهذا الصدد ما يلي:”…هناك شائعات، أخرى انتشرت في سان لوران دو ماروني، والتي تعتبر وفاة المغامر كليمس له علاقة بجريمة قتل. في الواقع، كان الحارس المسمى “ربطة العنق”، قد فقد إثنين من أبناء أخيه أثناء حرب الريف. ففي كثير من الأحيان، كان يذكَّر كليمس بهذه المحنة المزدوجة، وبقيت من دون المعالجة.
ففي الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1938، عندما بدا الصراع الفرنسي الألماني وشيكًا، كان “ربطة عنق” يخشى في حالة قيام هذه الحرب، أن يتم قتل أفراد عائلته من جديد على يد العدو الألماني، مثل ما وقع مع الآخرين، وكليمس كان التجسيد الحقيقي لهذا العدو في نظر هذا الحارس الحاقد. هذا هو السبب الذي أدى بالحارس إلى إطلاق النار عليه. مما لا شك فيه ستبقى الحقيقة حول هذه القضية محجبة، لأن إدارة السجن لا ترغب في الكشف عن الحقيقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدراما من هذا النوع، ومع ذلك، فإن وفاة كليمس سوف يبقى كحدث يزعج تاريخ سان لوران”، اقتباس وترجمة بدون تصرف.
ناقشت هذه المقالة مع محققة سابقة استنادا إلى التفاصيل الواردة في هذا المقطع. كان موقفها ترجيح موقف التصفية. لأن الصحفي ذكر اسم المنفذ وسبب التنفيذ في شقيه: موت بعض أفراد عائلة المنفذ خلال حرب الريف ( المجندين باللفيف الفرنسي)، وخوفه من الألمان في حالة اجتياحهم لفرنسا. بل يعتقد أن من قام بتصفيته من دول جنوب الصحراء (بدون ذكر اسم البلد)، وخاصة أن فرنسا جندت أعدادا كبيرة منهم في حرب الريف، بل من خلال قصاصات الأرشيف أن العديد منهم كانوا يشتغلون حراسا لسجون غويانا حينها، من بينها الجزر الثلاث، فضلا عما تناولته قصاصات الأرشيف، فعندما زرت معسكر اعتقال مقاتلي الهند الصينية أثارت انتباهي لوحة تشير إلى مكان ما بالأدغال كتب عليها :” les travailleurs Sénégalais ” فعلا يبدو أنه مجمعا سكنيا لحراس هذا المعسكر. لا أتصور مطلقا فرنسيا سيشتغل في هذه الظروف الصعبة للغاية داخل أدغال الأمازون.
عندما دخلت هذه القاعة سألت القائمين عنها إن كانت هناك قاعة مماثلة للحراس في جزيرتي سانت جوزيف والشيطان. كان الجواب: لا.
بل إن السيدة الأولى الواقفة على يميني، وهي مديرة لهذا المكان كما بدا لي، رددت كلاما غامضا ينم عن التحفظ:” ايه، هنا حدث..سمعتها”. سألتها إن كان لديها أخبار أخرى تفيدنا بها!! :”أجابت لقد سمعت بأنه هنا سقط ولن أضيف كلمة.”.
كلام السيدة يدل على أن الموضوع مازال حاضرا في ذاكرة المكان، وأن الخوف والتحفظ هو سيد الموقف في تناول موت كليمس رغم مرور 80 سنة على الحدث. القانون الفرنسي لا يسمح بتداول القضايا الحساسة عموما قبل مرور 100 سنة عنها.
التقارير الأمنية 15 تشير كلها إلى انتحاره في مقهى الحراس بجزر السلام، ولم تشر إلى أن هذه المقهى توجد بجزيرة رويال، وذلك من أجل التمويه والتعويم. لكن ولأنها المقهى الوحيدة للحراس بهذه الجزر الثلاث، فتبقى هي.
الدليل القطعي الآخر يتمثل في رسم يدوي احترافي لإعادة تمثيل الجريمة المصاحب للتقارير الأمنية. الرسم البياني يعود لهذه القاعة.
كليمس الإنسان:
بالاضافة إلى شهادة التقارير الأمنية في حسن سلوكه وأخلاقه ومعاملته الطيبة لباقي السجناء، نفس الشيء تؤكده مراسلاته مع والديه وأخوته وأصدقاءه. كليمس كان يتلقى العديد من الرسائل عبر العالم ( هولندا، أمريكا، ألمانيا،.). كما كان يتلقى شيئا من الدعم المالي منهم.
وكانت منظمة :” جيش السلام:” “armée de salut “، تقوم بعملية مده بهذه الأغراض. هي منظمة مسيحية أمريكية، كما قيل لي. واسمها وارد في بعض هذه المراسلات.
سأقتطف بعض مقاطع من رسالة توصل بها من صديق هولندي:
الغالي جوزيف
توصلت للتو برسالتك الجميلة التي أرسلتها لي يوم 27 فبراير، وأنا أشكرك عليها كثيرا، لأني كنت جد مشتاق لتلقي اخبارك.
أتمنى أن تكون قد توصلت بالقدر المالي، 100 خولدة الذي أرسلته إلى “جيش السلام” في مدينة كييان بغويانا. أخبرتني الضابطة J. Khpfanstayn على أنها ستسهر على توصلك بهذا القدر المالي.
هنا عندنا نفس الحياة والروتين: نشتغل، نأكل، ننام ونسهر. كنت قبل ثلاثة أسابيع في كولن ودوسلدورف وميونيخ لحضور الكرنفال والترويح عن النفس (…).
هل سمعت بخبر تشكل حلف أنسكوش-داوتسلاند-أوتريش؟. اليوم أصبح لدينا ألمانيا الكبرى.
آه الغالي جوزيف، إذا قدر لك يوما الدخول إلى ألمانيا ستتفاجأ بالتحولات الكبرى التي حصلت. كان لدي تخوف دائم على أن الأمور تسير بشكل سيء في فرنسا. الكثير من الإضرابات، والكثير من اليهود والشيوعيين. أتأسف على حال هذا البلد الجميل.
في إسبانيا الأمور تسير في غير صالح الشيوعيين. فرانكو يحرز انتصارات تلو الانتصارات. لقد بدأ يزحف على برشلونة بعدما أخذ فالينسيا ومن بعدها بدون شك كل إسبانيا (..).
هتلير رجل داهية وذكي. هنا بهولندا، الأمور لا تبشر بالخير حيث ارتفاع البطالة والبؤس. الحزب الوطني الاشتراكي يكبر بسرعة فائقة، مما يرشحه السير في نفس خطى ما حصل بألمانيا. سنكون جد سعداء إذا لم تكن هناك حرب (..)
الغالي جوزيف،
ستجد رفقت هذه الرسالة العدد الأخير من جريدة Illustration . سأكون خلال أسابيع من جديد في دوسلدورف. ستكون مناسبة لزيارة والدتك. سأحدثك على الزيارة في رسالة قادمة.
أتنمى تحقيق كل ما تتمناه وأشد على يديك بحرارة.
بريدا 28 مارس 1938..
التوقيع: Van der Beek.
ملاحظة: هذه الرسالة أو المقاطع منها مصدرها الأرشيف ولا اعتقد سبق نشرها
جمال الكتابي سان لوغان دوماروني (غويانا).
21 مارس 2022.