دوامة التاريخ ولغز صمود الجغرافيا


أمام ذهول الجميع من توالي تساقط الأرواح البشرية كأوراق الأشجار في الخريف المحزن، وفي ظل الانتشار السريع والهادئ للأوبئة المستجدة عبر مر التاريخ والعصور، تلك العصور المليئة بالمآسي، ومن الصعب الخوض فيها، أوبئة غامضة في طبيعتا وأصلها ووجودها من عدمه! فيروسات وأوبئة تخرج للوجود، كدوامة جارفة للبشر على مدى طويل ومتوسط وقصي، أوبئة أصبحت منظمة تقوده فيروسات ساخرة من دهشة عقول العلم البشري! فالأزمنة بمختلف أبعادها وحقبها الممدودة الممددة، أكدت أن المخلوقات المجهرية قادرة على قلب المفاهيم وخلخلة الأفكار والأيديولوجيات الاقتصادية، وتحيير علماء الطب والبيولوجيا، وذلك بغموض خروج تلك الأوبئة، غموض بطرق وكيفية انتقالها بين جنس بشري محكوم عليه في نهاية المطاف بموت محقق، فيمسي الإنسان كائنا مصدوما ضعيفا، وجبروته يقتصر فقط على تفاهة التدمير، والقتل، والتخريب بمختلف أبعاده واتجاهاته.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    وفي ظل كل النظريات التي تظلم الواقع عمدا عندما تعطي لنفسها الحق بصباغة أفكارها باسم العلم والعلوم.

    نظريات في الغالب تحكم على نفسها أصلا في خندق نطاق المحدودية النسبية، البعيدة كل البعد عن الموضوعية، والحتمية المفقودة.

    تلك الحتمية بحكم تسلسل الأحداث التاريخية والمعطيات الجغرافية، تندرج وتجزم في عنصرين ثابتين، وهما حتمية الموت، وحتمية وجود خالق عظيم للكون والحياة الخفية والظاهرة في آن واحد.

    وفي خضم جبروت الجهل البشري، بسيرورة العبر من منطلق دراسة المآسي التاريخية، التي أكدتها الطبيعة بنسبة تفوق ما يقدم عليه البشر ضد البشر، بهدف تحقيق ما يسمى بالتيموس، أي حب الاعتراف والرغبة الجامحة في إخضاع البشر للبشر، بطرق مختلفة وصلت لحد الاستعباد، باستعمال وسائل القوة القمعية أو وسائل الإعلام المضللة، أو طرق الدعاية المحركة للأحاسيس غير العاقلة الميالة للتفاعل مع مثيرات العزف والموسيقى الحماسية وغيرها من المنبهات التهييجية الاندفاعية!

    التاريخ يعيد نفسه بقوة دواماته الزاحفة على المساحات الجغرافية التي تشكل لغزا وجوديا عظيما، لا أحد له القدرة على تحليل كينونته، وطبيعته، وأدواره، في هذا الكون اللامتناهي، جغرافية غير مبالية بالحدود الوهمية، التي أحدثها الفكر البشري، بهدف صد الحركات السكانية، وتحويل الأرض المشتركة إلى أسلاك شائكة، عنوانها الحدود القامعة للتعارف والتعايش بين الأفكار والثقافات، والأحاسيس الوجدانية، المفعمة بالقيم الإنسانية، والمكبوتة بمفاهيم معرقلة للتنوع البشري، هاته المفاهيم تتكتل في رزنامة من المصطلحات المصطنعة، كمفاهيم الدولة، والسيادة، والعالم النامي مقابل العالم المتحضر، وغيرها من العبارات المغروسة أكاديميا، والمجانبة للصواب أخلاقيا وكونيا، والفاقدة للشرعية وجوديا، ما دامت الأرض مشتركة وجامعة للبشرية وضامنة للتنوع البيولوجي الغني بتوازنه وروعته الخلقية والخلقية العظيمة!

    فها هو التاريخ يعيد نفسه من جديد، فالحروب عندما تشتعل تتمدد في مساحات جغرافية لا دخل لها فيها. وهو ما تمليه وتحدثنا عنه مختلف الكتابات والرموز التاريخية الضاربة في القدم، تلك الصراعات التي خاضتها الحضارات القديمة، كبلاد الرافدين (العراق) وبلاد فارس (إيران) وشبه الجزيرة العربية، وفينيقيا (لبنان) وقرطاج (تونس) والرومان والبيزنطيين والمغرب القديم والإغريق وحضارة المايا والإنكا في البيرو والميكسيك، وحضارات أخرى عديدة ومتعددة، ربما ظلمت في حقها من حيث التدوينات والكتابات التاريخية المتنوعة والغزيرة، مرورا بالحربين العالميتين الأولى والثانية، وغيرها من التطاحنات المميتة، والتي وظفت مصطلحات جوهرها يقتصر على دلالية الأنانية، كالعظمة والكرامة والهيبة وذلك بهدف تبريرها لسفك دماء أقوام تختلف عنها أو تعارض ثقافتها، أو تتعاكس مع أيديولوجيتها المتنوعة المختلفة، فكانت النتيجة الثابتة، مقتصرة على القتل والتدمير والتجويع، تجويع من! الأبرياء بطبيعة الحال، وهتك أعراض الأمهات والبنات البريئات بدون إنسانية ولا حياء مفاهيمي، والغريب في هذا التاريخ الأعرج! هو أن أغلب المدارس التاريخية تتغاضى عن الكتابات الممجدة لتلك الحضارات رغم البناء الحضاري، بناء أسس في معظمه على سيل ليس بيسير من الدماء، والسمو بفكر ديكتاتوري قمعي، على حساب معاناة أجيال ماتت بدون سبب، إلا بعجرفة لخصت في مفاهيم مبهمة يمكن حشرها بكل بساطة في عبارة قلة الأدب!

    - إشهار -

    أما تاريخ الأوبئة فلا غرابة فيه، إذ أن ماضي الشعوب والمجتمعات مليء بالقصص والمآسي، فالوباء عندما ينطلق من موطن ما، تقف الجغرافية بكل تلاوينها طبيعية اقتصادية، عسكرية، سياسية، ثقافية.. عاجزة عن صده، لكن النتيجة واحدة مشتركة بين البشرية جمعاء، هذا المشترك شعاره حامل فقط لحمولة ثنائية اسمها الخوف والموت، مع الجوع والعدوى وانهيار للنظم الاقتصادية والأساطير التكنولوجية! والدخول في قوقعة الحجر الصحي، والسجون المنزلية هلعا من شبح قاتل لا يراه أحد، بل يحتاج للتشخيصات المجهرية والأقنعة الواقية فقط.

    وأمام هذا الزحف الذي تقوده دوامة الزمن، الذي يسجل ويدون في عالم اسمه

    التاريخ، تبقى الجغرافية اللغز عاجزة عن التحرك، لسبب واحد وهو أنها تتأسف على غباء البشرية في فهم طبيعة الكون، والتعامل وفق روح أخوية، ما دام الكل يستنشق نفس الهواء، ويشرب نفس الماء، ويأكل نفس الغذاء، وله غرائز متشابهة ويشترك في الموت والحياة.

    لكن وفي غياب رجاحة تفكير العقول غير القادرة على استشراف هول آفاق الأخطار المحدقة بالجميع. إذ اقتصر الإنتاج الفكري على أفكار ذاتية محضة ومصلحية ليس إلا، بحيث تعجرفت اللامبالاة بواقع الاحتياجات المرتبطة بالبشرية، واستبعدت العقول المفعمة بالأحاسيس الإنسانية، بل أصبحت بعض الأفكار مثقلة بالترسبات الحجرية، الحاقد والكارهة للماضي والحاضر، والجاهلة تماما للخطر المحدق على الجميع في المستقبل المجهول الغامض، والذي لا أحد في هذا الوجود باستطاعته تحديد وتقدير مخاطره على الأرض، والبشر والشجر والحجر و… إلا الخالق عز وجل سبحانه رب العالمين.

    فالتاريخ دوامة جارفة، لسلوك بشري مقيت، مبني على الأنانية، ونكران العيش المشترك، العيش القائم على الأخوة الإنسانية، في وسط جغرافي ثابت بطيء في تغيراته، بيد أنه شاهد أساسي، لكن للأسف غير ناطق، على حقب، ورسالات، وحروب وقتل، ومرح وفرح، مرت وسوف تمر على واحة قاحلة اسمها دوامة التاريخ!

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد