تفاعل الصحافة مع رحيل النويضي.. أبو زيد تكتب: كان يحاوره.. وكان الموت ثالثهما
اقتعدا طاولة الحوار، أمامهما بعض الحاجيات، قبالتهما فريق التصوير في ما أتصور، لاشي يشذ عن القاعدة، هدوء البدء قبل التسجيل، ابتسامة هنا، دعابة هناك، زفرة عميقة، رشفة ماء، خط تحت فكرة، محاولة أخيرة لضبط خطة التفاعل و ترقب ما قبل انطلاق رحلة الأثير.. وكان الموت في مكان ما، وقوراً مهيباً، يمسك برملية دقيقة، تتسرب حباتها من عنق الدنيا، إلى العوالم الباقية… يلحظهما.. ويربت على كتف الروح في وجوم سفر النهايات/البدايات…
اِنطلق الحوار، بدا الضيف المُودع هادئاً في تفاعله، يُساكن في حكمة مسكوكة نتوءات انتقاده ومدخلات التصحيح، ليتنقل بلياقة ممتنعة من القتامة إلى ضوع الأمل، ويحلق بصبر المُبتلين فوق الإحباطات والإنكسارات، ناثراً دعوات الثبات على العقل والتروي في الرأي.. وحزم التجربة في إنارة الطريق إلى الخلاص السياسي والمؤسساتي… وبينه وبين المُستضيف.. ضيف الوعد.. ثالثهما، يحزم متاع الروح في وجوم، تاركاً لهما رفه كتابة الصفحة الأخيرة من كتاب الحقوقي، وأركان السردية الخاشعة في مسار الصحفي.. ولنا… تفاصيل اللقاء/الوداع الإعلامي الأخير.
حاولت أن أقف هنا… وأن أتأدب في حضرة الحق.. وأن أتسامى عن سذاجة طرح أسئلة الفانية في حضرة ضيف الضيف، غير أن المشهد فارق فعلا.. هل هو عبق النهايات؟ الوداعات؟ الرحيل؟ الغياب؟ “هل هو صدق الرقيم” الذي كُتب بحبر الأنفاس الأخيرة على صفحات الأثير وفي حضرة رفيق الرحلة التي كنت عنها تحيد؟
هل من دلالة أخرى للرحيل على الأثير وفي بيت من بيوت الإعلام والصحافة… وهل لنا أن نستخلص -بغير قليل من التردد- واقع انكماش دور الصحافة والإعلام في تغذية الحالة النضالية الوطنية “اللازمة”، على ضوء تفاعل الجسد المؤسسي للصحافة والإعلام مع رسالة احتضار المناضل عبد العزيز النويضي خلال استضافته من طرف الصحفي يونس مسكين في بيت موقع صوت المغرب؟
وماهي رسائل “برود” الأسرة الصحفية والإعلامية اتجاه رحيل مواطن مناضل مُلتحفاً كَفَناً من المطالب السياسية والحقوقية الإصلاحية؛ رَصّ له القضاء من الأثير ثرى للروح والمسار .
لقد اقتصر تفاعل أهل رسالة الصحافة والإعلام في بلادنا على نقل الخبر في لباسه المفاجئ والصادم وامتد، في حالات، إلى بسط سيرة الراحل رحمة الله عليه أو إعادة نشر حواراته القديمة، في إغفال غير مفهوم لكمية المعاني التي تنز من حيثيات الحوار الأخير.
فالمشهد المُثقل بالرمزية لم يستوقف -دون تعمبم- بنيات الصحافة والإعلام في بلادنا، ولم يثر اهتمام الأسرة المؤسسية للصحافة والإعلام، والدائرة الحكومية، ومجمل الطيف الفاعل في المشهد المؤسسي الصحفي والإعلامي. كما أنه لم يُحرّر، ولو لبرهة، الهم الصحفي والإعلامي الوطني لينفعل على ناصية المسؤولية اتجاه المحتوى الفكري والسياسي والحقوقي الجاد و الحق، ولم ينغص تيه الوعي الصحفي في دروب الانسلاخ من الهوية الأخلاقية لرسالة الصحافة والإعلام، كما يبدو أنه لم يستحث الطموح الصحفي لاستعادة السلطة الأخلاقية والقيمية لمهنة الشرف والشرفاء، ولم يثر الحاجة إلى فتح كتاب تطوير ممارسات جديدة تؤطّر تفاعل الصحفي/ة والإعلامي/ة في ظروف الشدة أو الاستعجالية القصويين، كما لم يستنفر مبادرة مؤسسية حكومية أو مهنية أو نقابية لفتح كتاب حياة معتنقي عقيدة بناء الجسور بين الأفراد الذاتيين والمؤسسين عبر معابر الصحافة الجادة والمواطنة .
كيف لم يَفُضَ أهل الذكر في الخبر والإخبار الوصية الأخيرة المجتزأة من الوصية الأولى التي خطها بالدم والعرق والروح الآباء المؤسسون للرسالة الصحفية والإعلامية؟ كيف لم توقظ الفجيعة الهم الوطني الحق حول المهمة الجسيمة التي لا يجاري عواصفها إلا من تتلبس روح الوطن روحه، ومن تسكنه هموم الأزمات التي تعصف بالقيم الجامعة وبالإرادات الوطنية .
لم تتوفق الإجراءات التجميلية المتراكمة في شكل قوانين واتفاقيات وسياسة المناولة التواصلية وترميم المصداقية بحقن الشعبية والتأثير الإفتراضيين و”كبسات” المتابعة… كل هذا لم ينجح في حجب تأثير تدهور واقع الصحافة والإعلام في بلادنا، و انسلاخها الملحوظ والمتسارع عن الهدف والهم والمسؤولية التاريخية لسلطة الإخبار والكشف، كما لم تفض “التفاهمات” الداخلية و الخارجية إلى صيغ حاجبة لواقع الانكماش الذي يشل سلطة الصحافة والإعلام ويعزلها عن وظيفتها ويُعقد بالتالي شروط التغيير السياسي والمجتمعي الضروري.
لماذا يا ترى هذا الربط الذي قد يبدو مبالِغاً في اعتبار طبيعة تغطية الرحيل على الأثير، علامة إضافية من علامات الساعة في مسار مهنة التأثير والتأطير؟ ربما لأن الأمر يتعلق -في اعتقادي- بمؤشر لقياس التحولات التي طالت تصور العقل الصحفي والإعلامي لدوره في الإصلاح السياسي في بلادنا، و الذي يبدو أنه -التصور- يتأرجح بين تأويلين ناظمين لهذا الدور: أحدهما يقوم على استلال النّفَسِ السياسي من حبر الصحافة بشكل تام وممارسة نقد وكشف وفضح لا سياسي للظواهر السلبية في حياتنا العامة بشكل يغذي -عن قصد أو دون قصد- أطروحة السلطة الإصلاحية اللاسياسة، وتوجه آخر يُقَعِدُ قراءتَه للشأن العام على أسس سياسية وفكرية واضحة دون أن يقرر الانتصار لتصور معين للإصلاح السياسي والمساهمة الفاعلة والنافعة بالتالي في بناء ديناميات سياسية بديلة.
وبين الاختيارين، تشتغل محركات الواقع الصعب الذي يتحكم في قدرة القلم والقلب الصحفيين على خرق قواعد المحاصرة والقولبة التي يفرضها السياق المغربي .
إن دور الصحافة والإعلام في استنهاض إرادة الإصلاح والتغيير والتقدم والتخليق في السياق المغربي لا يمكن أن يمثل خياراً تحريريا ضمن طيف خياراتٍ مغايرة بل يتوجب أن يُعتبرَ العصبَ الوجوديَ الناظم للعقل الصحفي والإعلامي في النسق السياسي في بلادنا، والذي يجب أن ينعتق من حالة “الحمل الكاذب” التي تصلح توصيفا لبعض الظواهر “الصحفية” و”الإعلامية” المهيمنة، التي تبعث تطمينات مخادعة حول قدرتها على إدارة المزاج العام وتوجيه الرأي العام، و تبعدنا مسافات عن اللحظة المنعطف التي يجب أن نقر فيها بخطورة الوضع الصحي لصحافتنا -إلا في حالات قليلة جداً- واستحالة مساهمتها في إعادة البوصلة للعقل الجمعي، وزرع الذوق في السلوك العام وحسن التأثير في المزاج العام والانتصار للضمير الجمعي، و بناء تصور حقيقي وواقعي للمصلحة الوطنية .
يروي التاريخ الحكيم حكاية طلب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور انضمام أحد أهل الحكمة والرأي ورواد الفكر، المعتزلي عمرو بن عبيد، إلى مجلس حُكمه، فكان أن اِعتذر منه ناصحاً: ارفع أعلام الحق يأتيك أهله.
كان الأمر أبسط فيما يبدو مما تطور إليه وضعنا الحالي، حيث كان يكفي أن تُرفع رايات المشاريع التخليقية والإصلاحية ليلتحق أهل العزم لدعمها وتقديمها كبدائل سياسية ومذهبية. إلا أن تطور العقل البشري أصبح يوكل اكتشاف الاختلالات وكشف الوقائع المغلفة، وتقديم الخيارات والحلول والبدائل إلى ميكانيزمات أكثر تطوراً، وأقوى فعالية، والمتمثلة في الصحافة والإعلام. كما أنه قد يوكل إليها أيضا نسف الارادات الصادقة و تحوير التوجهات و قرصنة الأهداف بل و تكنيس أعلام الحق وأحياناً تكنيس أهله.
لذا من حقنا أن نربط سؤال صحة صحافتنا وإعلامنا بموقفها البارد من الأمانة التي لَفّهَا أحد ضيوفها بروحه، واستودعها مطمئنًا بريد الصحافة والإعلام. ومن حقنا أن نُمني النفس الأمارة بالأمل بأن انطفاء مناضل في بيت من بيوت الصحافة كفيل بأن يضرم حالة نضالية أصيلة في العقل الصحفي والإعلامي الوطني. ربما لهذا أيضا…اختار الموت.. أن يكون في ذلك اليوم.. ثالثهما!