حسناء أبوزيد: في الحاجة إلى ملتمس رقابة لتحرير “الاتحاد الاشتراكي” من “قيادته”
تجشمت ” قيادة ” حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عناء إخبار الرأي العام بالمُتوَقٌعِ في ما أسفر عنه اجتماع “قيادته”، يوم الأربعاء 27 مارس 2024، في محاولة لتبرير حالة التلبس الأخلاقية والقانونية الكاملة الأركان ، والمتعلقة بضبط المجلس الأعلى للحسابات لحالة استيلاء واضحة، لأموال مخصصة لدعم الدراسات بهدف تمكين الأحزاب من وسائل التطوير الفكري والمعرفي لأدائها ، إلا أن المبادرة التبريرية ، كشفت عن ما يتجاوز قراءة “القيادة ” لما كشفه تقرير المجلس الأعلى للحسابات للمال العمومي ، لتكشف عملياً حقيقة كون ما حدث بشأن تحويل وجهة الأموال العامة إلى الجيوب الخاصة ليس حدثاً معزولاً بل هو تجَلٍ مخلص لعقيدة حزبية حاكمة كشف بيان اجتماع ” قيادة” الحزب الموتور عن بعض وجوهها.
إن البيان المنبثق عن الاجتماع “بيان الحقيقة ” عرى ربما دون قصد الوجه الأخطر لاستمرار تجاهل المنظومة السياسية تداعيات أزمة الواقع الحزبي والسياسي ، بل و كثف – البيان – في بضعة أفكارٍ ليس فقط تمظهرات الخراب السياسي والأخلاقي للبيت الحزبي بل عرى واقع تآكل المرجعية القيمية والتاريخية المؤطرة لعلاقته الجدلية بمؤسسات الدولة بكافة مستوياتها واختصاصاتها ، سياسية ، إدارية و رقابية . لقد كشف البيان عن القناعة المتوارية خلف المبادرات التي تصدر عن المتحكمين في حزب القوات الشعبية ، والتي تَبلورت بعد أن أصبح الحزب الوطني أداة تِقنية مكَلّفَةٍ بالتنفيذ المأجور لأجندات الأغيار ، إلا أنه لم ينجح في تأمين استكمال الصفقات إلى مراحل استخلاص المقابل المصالحي ، سياسيا بالمشاركة في الحكومة ، مؤسساتياً بتأمين حصانة ضد المتابعة وضد الرقابة والمحاسبة والمساءلة حول الدعم المالي وانتخابيا بالدعم والسند والتوجيه.
فكان منتظراً في ظل العزلة التي يغرق فيها الفعل الحزبي بشكل عام والعزلة الأخلاقية التي تخنق “قيادة “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية داخلياً وخارجياً ، أن يُضيع الطريقَ مرة أخرى وأن يدفع الحزبُ الحامل لمشروع التخليق بكونه كيان فوق المحاسبة وفوق التخليق وفوق القانون.
وهكذا وصف “المكتب السياسي” لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الحزب المريض بالقوة السياسية المركزية! واعتبره فاعلا سياسياً محورياً والذي “اختار” خدمة الوطن والديمقراطية ومن موقع المعارضة ، بشكل يُفهم منه أن المجتمعين يعتبرون أن ” القوة المركزية ” التي يتوهمون أن الحزب يمثلها في الراهن السياسي المغربي، ودور الفاعل السياسي المحوري الذي يعتقدون أنه يشغله ، يفترض أن يضع الحزب في وضعية ما فوق المحاسبة وأبعد من المساءلة ، والدفع بحصانة سياسية ضد الرقابة وضد الحكامة وضد المحاسبة واعتبارها وسيلة تحكمية تتعارض ومبدأ استقلالية الأحزاب واستقلالية العمل السياسي!
ثم تنتقل “قيادة ” الحزب التاريخيّ إلى مستوى أوضح في الإفصاح عن التحولات التي مست العقل الحزبي والتي يترجمها خطه السياسي في ظل الوضعية العامة التي تعيشها بلادنا ، من خلال فكرة ناظمة تربطُ استقلالية العمل الحزبي والسيادة الحزبية بالحق في “المروق” على القانون ، بما يُحوِلٌ الأحزاب إلى طوائف منغلقة على نفسها ، تحتمي بشرعية الحشد الداخلي ، الغير الخاضع لقواعد الديمقراطية المنصوص عليها قانونياً، لمواجهة الشرعية القانونية والدستورية ، وشرعية التأسيس وشرعية تمثيل الشهداء ، هذا الحشد الذي أخفق قانون الأحزاب طوال عقدين في دمقرطة سلطته وفعله . كما عرض للبيع في سوق التبرير أحد أهم مرتكزات الخط السياسي للحزب والمتمثل في مبدأ التأويل الأخلاقي المتقدم للقواعد القانونية.
إن المتتبع لمراحل تبلور ” التحور” الذي طال عقيدة الفعل الحزبي في علاقته بالفاعل السياسي المركزي والمتمثل في الدولة نفسها ، لا شك سَيَخلُص إلى ما يُشبه تحقيباً لتطور الفكرة الناظمة لعلاقته بالدولة و بالنظام السياسي ، متنقلاً على درب السيرورة السياسية عبر تمثلات متباينة وجدلية لهاته العلاقة ، من حالة من المخاتلة والاستهداف الثنائي الاتجاه في ظروف انعدام الثقة بين الأطراف السياسية والدولة ، إلى محاولة بناء أرضية الثقة الدستورية والقانونية لعقلنة وتيرة الانتقال إلى منظومة ديمقراطية ، لنخلص إلى مرحلة يجوز وصفها باستيلاء الفاعل السياسي المركزي على أدوات التأثير والتأطير، بما يصاحب ذلك من تجريد تام للأحزاب السياسية من عصب ارتباطها بسبب وجودها والمتمثل في المجتمع وقضاياه وسبل نيل ثقته ودعمه النضالي، السياسي والانتخابي ، ففرضت الدولة تأويلها لسياسة قُرْبٍ ملغومٍ من المواطنين يستبطن كل أسباب تنفير المواطنين من التأطير السياسي والفكري والمذهبي ويُحول وِجهتهم إلى علاقات انتفاعية فصيحة التجليات ، إذ أن الأمر يتعلق بِقُرْبٍ ينتقل بالفعل السياسي إلى مَلْعب تفوق الدولة وامتدادها، فيظهر عجز الفاعل الحزبي الحقيقي عن مجاراة لياقة مؤسسات الدولة في رتق أعطاب السياسات العمومية بالمبادرات الاجتماعية المختلفة ، فكان طبيعيا أن تتأثر مرجعية التنخيب الحزبي داخلياً وخارجيا بالمؤثرات العامة للمنظومة السياسية والاقتصادية والثقافية، وكان متوقعا أن تتحصن الأحزاب بمحترفي القرب الانتخابي كرئة اصطناعية تمد الجسد الحزبي بشرعية شعبية مستنسخة ، وكان منتظراً كتداعيات داخلية أن تتفوق التيارات الانتهازية الفاسدة الحزبية على التوجهات المبدئية والعقدية الحزبية و أن تتحور مرجعية التنخيب الداخلي لصالح القيادات الملتبسة القناعات ، والوجوه والأدوات والعلاقات.
إلا أن ما يعيشه حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، يدشن مروراً “طليعياّ” إلى مرحلة أخطر في علاقته بالدستور والقانون وبالمؤسسات الدستورية ، من المؤسف أن تسجل “قيادته ” رِيادة مُهينة في تسفيه ليس فقط الحزب الوطني، بل وتسفيه المكتسبات الديمقراطية والدستورية، فيتحول الحزب من عقيدة الوطنية النضالية إلى عقيدة “المناولة ” والحزب المفعول بواسطته والتي تمتهن توظيف الوزن التاريخي للحزب لتسخير الأدوات الدستورية في أعمال التحايل المُمتهن سياسياً وأخلاقيا ، ولعل أحد أحدث تجلياتِها التلويح بإعمال أحد الآليات الرقابية القصوى والمتمثلة في تقديم ملتمس رقابة معيب سياسيا ومؤسساتيا وأخلاقيا، يقوم على الافتراء على تحالف المعارضة البرلمانية ومحاولة التغرير ببالغ سياسي قائم الإرادة والتعبير، ويُرفعُ في وجه حكومة معزولة سياسية وشعبياً، بتزامن مع إرهاصات تعديل حكومي مُرتقب.
أكاد أجزم أن ما كشف عنه تقرير المجلس الأعلى ، لم يصدم الاتحاديات والاتحاديين ، ولم يصدم المتتبعين للشأن الحزبي الاتحادي ، لأنه لا يُمثل أكثر من تمظهر لحالة الانحراف الأخلاقي والمذهبي الشامل الذي يغرق فيها حزبنا منذ المؤتمر التاسع للحزب، و منذ أن سطى التيار الانتهازي الفاسد على السلطة الحزبية بدعم من قوى إجهاض المكتسبات الدستورية و محاصرة انعكاس القيم الدستورية على القيم السياسية وأخلاقيات العمل المؤسساتي عموماً والحزبي خصوصا.