المرض.. من تمثلات أسبابه إلى استراتيجيات علاجه
تنطلق هذه الورقة من منطلقين أساسيين، فأما المنطلق الأول هو أن الاستراتيجيات التي ينهجها الأفراد من أجل العلاج، تعكس تمثلاتهم للصحة ولأسباب المرض. والمنطلق الثاني هو أن هذه الجدلية بين تمثلات أسباب المرض واستراتيجيات العلاج، من شأنها أن تكون معيقا من معيقات الولوج للخدمات الصحية، وسأبين كيف ذلك في متن هذه المداخلة. لكن، لابد وأن أشير إلى نقطة هامة وأساسية، تتجلى أساسا في كون هذه المداخلة لا تبتغي إلقاء اللوم على أفراد المجتمع أو الساكنة، بقدر ما تبتغي إيصال فكرة مفادها أن تجاوز بعض الأنماط من التمثلات لأسباب المرض من شأنه أن يساعدنا على الوصول للخدمات الصحية، وقبل ذلك المطالبة بتحسين وتجويد هذه الخدمات إن هي وجدت في الأصل.
تمثلات الصحة وأسباب المرض:
تمثلات الصحة:
تتحكم في تمثلاتنا وتصورنا للصحة مجموعة من التنائيات، وهي تعكس بالضرورة جزء كبير من ثقافتنا التي نفهم ونرى بها المجتمع والوجود. هذه الثنائيات يمكن أن نذكر منها صحة الذكور/ صحة الإناث، صحة الشباب/ صحة المسنين، صحة القرويين/ صحة المدينيين…إلخ. وبناء على هذا التقسيم في تمثلاتنا وتصوراتنا للصحة، نفهم أن الصحة كما يقول الباحث في علم الاجتماع زكرياء الإبراهيمي “ظاهرة اجتماعية، تبنى ثقافيا، وتتحدد انطلاقا من مجموع الشروط الاجتماعية التي يعيش داخلها الأفراد” . المشكلة، هي أن التمثلات لا تتوقف عند ذاتها، بل عادة ما تتلخص في مواقف، هذه المواقف بدورها تتصرف في ممارسات. من ثمة يمكن القول، إننا نقسم الأمراض على أساس هذه الثنائيات، فنعتبر أجساد الإناث أكثر قابلية للمرض على عكس أجساد الذكور، كما أن أجساد الشباب أكثر قابلية للمرض من أجساد المسنين. لكن هذه المفارقة تنقلب حين نتحدث عن ثنائية القرية والمدينة، إذ نعتبر الجسد المديني يكون أكثر عرضة للمرض من الجسد القروي. لن ندخل فيما إن كانت هذه التمثلات خاطئة أو صحيحة، أو منطقية أو غير منطقية… فذلك ليس لنا فيه شأن، وليس من مهمتي ولا من حقي أن أحاجج على صحتها من عدمه. ومن هنا تنبع المشكلة، بحيث، أنه عندما نقول أن أجساد الإناث أكثر عرضة للمرض من أجساد الذكور، فإننا نعتبر مرض الأنثى أمرا عاديا واعتياديا، ونقبل البوح به بناء على تصورنا لها ولجسدها. لكن عندما يتعلق الأمر بالذكر، فنحن عادة لا نقبل منه البوح بالمرض، أو التعبير عن الألم. وإن هو أفصح عن ذلك فإننا نعتبره غير قادرا على أن يكون رجلا، لاسيما وأننا نتحدث عن الألم كخاصية أنثوية. من ثمة، نفهم لماذا نجد المراكز الاستشفائية القروية أكثر امتلاء بالنساء مقارنة مع الرجال.
نتحدث هنا عن جزء من تمثلنا للصحة كمعيق لإقبال الذكور على الاستشفاء. والبحث عن العلاج، أو حتى البوح بالألم. ما دام الألم نفسه كما يقول دافيد لوبروتون، يبنى هو الآخر اجتماعيا وثقافيا، فهو بحسبه “نشاطا من المعنى الذي يؤثر في الشخص الذي يعاني، فالإحساس بالألم، يعني المعاناة، وليس أبدا تكرارا للحدث الجسدي” . الأمر نفسه عندما نتحدث عن تمثلنا لصحة المسنين، وصحة الشباب، بحيث نرفض مثلا مرض السكري، أو آلام الظهر والمفاصل لدى الشباب، فيما نقبله لدى المسنين، وهو ما يشكل أو قد يشكل معيقا أمام الشباب للبوح بأمراض من هذا القبيل وبالتالي البحث عن العلاج والاستشفاء…إلخ.
تمثلات أسباب المرض:
تتأثر تمثلاتنا لأسباب المرض بمجموعة من العوامل؛ اجتماعية، دينية، ثقافية…إلخ. لكن، سأكتفي في هذا السياق بعرض بعض التمثلات التي تحول دون البحث عن العلاج في المؤسسات الطبية. بحيث كثيرة هي الأمراض التي نتمثل أسبابها في أمور فوق الطبيعة، كالسحر، الجنون، المس، المكتوب، أوالعين… بالتالي فتمثلنا هذا يجعلنا نعتقد منذ الوهلة الأولى أن المرض الذي نتمثله كنتيجة لهذا النوع من الأسباب، يفوق قدرات الطب لأنه يتجاوز الطبيعة إلى عالم الماورائيات، فنسلك سبلا عديدة من العلاج سنعرض لها في الفقرات الآتية، قد تحول دون شفاء المرض، أو تزيد من حدته في كثير من الأحيان. فعندما نربط كثيرا من الأمراض بمثل هذه المقولات، فإن ذلك يؤثر بالضرورة على سبل واستراتيجيات بحثنا عن العلاج، لدرجة قد نتخذ سبلا كثيرة، قد تبعدنا أو تجعلنا في غنى تام عن المؤسسات الاستشفائية الحديثة. مثلا عندما نتحدث عن المكتوب كسبب للمرض، فإننا نسلم بشكل مطلق بأن تشخيص المرض، وإيجاد العلاج، لا يمكن على الإطلاق أن يكونا متاحين في يد البشر. “فالطابع الوحيد الوحيد الذي يتميز به المفهوم (المكتوب) هو وجوده كسبب عام وكلي يحضر داخل كل الظواهر البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تمس الوجود الإنساني في بعديه الفردي والجماعي، إنه الاعتقاد في أن كل ما يحدث في هذه الدنيا هو حتما من صنع الإرادة الإلهية، أي أن كل ما يقع للأفراد والجماعات هو أمر مقدر من الله لا يمكن تفاديه أو تجنبه” .
تحضر العين إلى جانب المكتوب، كسبب من أسباب المرض في مجتمعنا، لكنها لا تفوق أو تتقدم المكتوب من حيث القدرة على إحداث المرض. فكما يقول الإبراهيمي “إذا كان المكتوب هو البعد الإلهي الذي يقف وراء كل المصائب التي تسلط على الجسد أو يبتلى بها. فإن العين هي المظهر الإنساني الذي يقف وراء كل الخيبات التي يمكن أن يعيشها الفرد والجسد والطبيعة بشكل عام داخل المجتمع، ف”العين الخايبة” لا تستهدف الإنسان فقط بل الحيوان والأشياء كذلك، ولا تتخذ الجسد مجالا لنشاطها بل تتعداه إلى كل المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الأخرى التي يعيش فيها الأفراد، أو يجدون أنفسهم كعناصر أساسية فيها” . إن العين تحضر في مخيالنا الشعبي باعتبارها الجانب الشرير للعنصر البشري.
ولا يتسع الوقت لعرض تمثلات الأسباب الأخرى بما فيها المس أو الجن إلى غير ذلك من الاسباب التي نعود إليها وقتما أصبنا بمرض ما. فالأسباب التي يعتقد فيها العامة من هذا القبيل كثيرة يصعب حصرها وتحديدها.
استراتيجيات العلاج:
عرضنا في الفصل الأول تمثلات الصحة وأسباب المرض، بحيث يكون لهذه التمثلات تأثيرا قويا على استراتيحيات العلاج. فالتمثلات كما قلنا قبلا تتحول إلى مواقف، ثم تترجم في سلوكات وممارسات. بالتالي فإن تمثلنا للصحة، ولأسباب المرض يحسم في طرق اختيارنا للعلاج. وسأبين كيف ذلك من خلال التركيز على بعض الاستراتيجيات العلاجية.
1) استراتيجية الصبر:
إنها تعتبر واحدة من الطرق التي ينهجها الذكور أكثر من الإناث، وذلك يفسر بالثنائية التي انطلقنا منها والتي تقابل بين صحة الذكور وصحة الإناث. وهنا لابد أن نشير إلى أنه من خلال هذه الثقافة الصلبة التي ترعرعنا فيها، يعتبر الصبر على المرض وعلى الألم واحدا من الأمور التي يفتخر بها المرء، بحيث تدل على القوة والصلابة والفحولة… فالصبر على المرض هو نتاج ثقافة وواقع في آن كما سيتبين لنا. ففي مجتمع كالذي ننتمي إليه، عادة لا يحضر البحث عن العلاج إلا كحل أخير، بحيث يكون الصبر هو الحل الأول أمام المرء، ولا يبحث عن العلاج إلا إذا اشتدت حالته وازدادت تأزما.. لكن ما سبب هذا الصبر؟؟ هل الأمر مرتبط بمعطيات ثقافية فقط، أم أنه يذهب إلى أبعد من ذلك؟ أعود دائما إلى الدراسة التي أنجزها الإبراهيمي، وأقول معه إن الصبر على المرض لم يكن في الواقع حلا أو خيارا ضمن الحلول العلاجية التي ينتهي إليها الأفراد عندما لا يجدون حلا غيره. وإنما كان واقعا يفرضه غياب المؤسسات الصحية والخدمات الطبية. من ثمة فثقافة الصبر هاته، لم تكن نتاج عنصر ثقافي فحسب، بقدر ما هي نتاج تزاوج بين الثقافي والواقع الطبي الذي يفرض نفسه. وقد يكون هذا الصبر كذلك ناتج عن الحالة المادية لأفراد المجتمع الذي نعيش فيه، بحيث يعتبر الفقر مشجعا على تحمل المرض والتمسك بالصبر.
2) الأعشاب:
تعتبر العودة إلى الأعشاب واحدة من الاستراتيجيات التي ينهجها الأفراد جراء المرض، وهي استراتيجية تكشف عن علاقة الإنسان بالطبيعة بالدرجة الأولى. نجد أن أغلب الأفراد يلجأون في البداية ليس إلى المؤسسات الطبية، ولكن إلى البحث بداية عن الأعشاب التي من شأنها أن تساعد على تجاوز المرض، أو على الأقل التخفيف من حدة ألمه… وهو الأمر نفسه الذي كشفته دراسة الصحة والمجتمع حول مجتمع السهول…
كيف تؤثر هذه الجدلية على الولوج للخدمات الصحية؟:
تطرقنا إلى حدود اللحظة إلى الكيفية التي تتأثر بها الاستراتيجيات العلاجية، ويبقى لنا أن نبين كيف تؤثر هذه الجدلية على الولوج للخدمات الصحية.. إن ما يمكن فهمه من كل ما سبق هو أن مسار البحث عن العلاج يضع الطبيب أو المستشفى في آخر مرحلة تقريبا.
ومنه، كيف لنا أن نطالب بخدمات صحية في وقت يعد إقبالنا عن المؤسسات الصحية والطبية ضعيفا؟
بالتالي فإن أول شرط للمطالبة بتحسين الخدمات الطبية والولوج لها بسهولة، هو الإقبال على التطبيب بوفرة، وهو ما سيؤدي إلى إحداث إشكالية لابد وأن تجد لنفسها حلا، فالإشكاليات تنبع من الواقع، وليس من شيء آخر، وهذا الضغط الذي نتحدث عنه هنا لا يتأتى إلا من الوعي بالصحة وبأهمية المؤسسات الاستشفائية.
فعوض البحث عن العلاج في الأمور التقليدية، يجب البحث عنها في المؤسسات الحديثة المخصصة لها.
هوامش:
1- زكرياء الإبراهيمي، “الصحة والمجتمع : دراسة سوسيولوجية للصحة والمرض بالمجتمع القروي المغربي”، فضاء آدم للنشر والتوزيع، مراكش، الطبعة الأولى 2016، ص 13.
2- دافيد لوبروتون، “أنثربولوجيا الألم”، ترجمة عياد أبلال وادريس المحمدي، روافد للنشر والتوزيع-القاهرة، الطبعة الأولى 2019، ص 9.
3- زكرياء الإبراهيمي، مرجع سابق، ص 331-332.
4- زكرياء الابراهيمي، ص 335