آفة الجفاف بين الجوع والبون
تعد آفة الجفاف مشكلة من مشاكل العصر نظرا لتأثيرها على القطاع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي للشعوب والدول على حد سواء، ولعل المغرب جزء من منظومة الدول التي تعيش تحت وطأة الجفاف، وظاهرة الجفاف تتعلق بنقص الرطوبة في الجو هذا الأخير الذي يؤثر على المناطق الزراعية والبيئية بشكل عام، مسببا تأثيرات سلبية على المحاصيل الزراعية والحياة العامة للناس.
وكما هو معروف على أن الجفاف يتمثل في النقص الحاد الذي يصيب الموارد المائية والتي تدوم فترة من الزمن يمكن تحديدها بالشهور أو بالسنوات حسب هطول الأمطار، والنقص في هذه الأخيرة ليس وليد اللحظة كما يمكن تعريفها على أنها عملية سقوط قطرات الماء من الغيوم إلى سطح الأرض، ويعد الهطول المطري أحد عوامل حالة الطقس المهمة في منطقة معينة، ويسهم في توفير المياه للنباتات والحيوانات، ويؤثر على التربة والمناخ بشكل عام.
إن النقص في الموارد المائية له إنعكاسات سلبية على القطاع الزراعي وكل ماهو متعلق بالبيئة بشكل عام، مما يؤدي الى خسائر اقتصادية وسوء الأحوال الاجتماعية للسكان. فحسب احصائيات الأمم المتحدة، فإن نسبة الأراضي والمساحات الخصبة المتضررة من حالة الجفاف وتقلب المناخ تعادل مساحة دولة أوكرانيا .
إن لآفة الجفاف انعكاسات كثيرة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1_نقص المياه حيث يؤدي الجفاف إلى نقص المياه، مما يؤثر على المحاصيل الزراعية والحياة البرية.
2_ تأثير على البيئة والذي يمكن أن تتأثر به النظم البيئية بشكل كبير، حيث تنخفض مستويات المياه في الأنهار والبحيرات، والسدود. مما يؤثر على الحياة البرية والغطاء النباتي والتنوع الحيواني.
3_ تدهور خصوبة التربة مما يساهم في موت التربة وفقدان قدرتها على دعم النباتات عن طريق الامتصاص مما يؤثر على القطاع الزراعي والتنوع الحيواني.
4_ تأثير ذو طابع اقتصادي خاصة في المناطق الزراعية عن طريق تأثر الإنتاجية الفلاحية خصوصا المتعلقة بصناعات الأعلاف والمواد الأساسية الموجهة للإستهلاك الحيواني.
5_ تأثير على دينامية المجتمع والذي يؤدي إلى نقص مياه الإستخدام اليومي، مما يؤثر على حياة السكان ويزيد من انتشار الأمراض والأوبئة .
ولظاهرة الجفاف تاريخ طويل في شمال افريقيا وخصوصا بالمغرب حيث أصبحت تتزايد عاما بعد عام حتى انتشرت بشكل واسع بداية الثمانينات، وكما كشفت التقارير الدولية أن المغرب عانى خلال القرن العشرين من أكثر عشر فترات جفاف رئيسية؛ تمثلت في تراجع الفرشة المائية السطحية “آبار ؛عيون..” مما نتج عنه تراجع في الإنتاج الزراعي والحيواني والغطاء النباتي.
ومن أبرزها حالة الجفاف التي ضربت المغرب سنة 1935 وعدة دول أخرى فمثلا الولايات المتحدة شهدت جفافا خطيرا يعرف باسم “الغبار الكبير”، والذي كان جزءا من ظاهرة الجفاف في منطقة السهول الكبرى. هذا الجفاف أثر بشكل كبير على الزراعة والاقتصاد على المستوى العالمي، حيث تسبب في تدهور التربة وتكون عواصف رملية ضخمة وتسمم الحيوانات البرية.
وشكلت السنوات الثلاثين من القرن العشرين فترة من الجفاف الشديد مع تدهور الأراضي في الغرب الأمريكي، مما أدى إلى تشكل ما يُعرف بـ”الحقول الغبارية” وتحول الأراضي الزراعية إلى أراضٍ قاحلة. هذه الفترة كان لها تأثير كبير على حياة السكان والاقتصاد المحلي، وساهمت في تشجيع الجهود لتحسين إدارة الموارد المائية والتربة وكانت بمثابة منعطف تاريخي في البحث العلمي في شقه الزراعي والمناخي وبزوغ مرحلة أولى من الفلاحة العصرية.
والمغرب ليس حديث العهد بالجفاف وانحباس الأمطار، فقد عاش سنة 1935 قحطا شديدا لا مثيل له، وصفه المؤرخ الناصري في كتابه “الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى”؛ حيث مات المئات من الناس بسبب الجوع والعطش، وماتت أيضا الآلاف من رؤوس الماشية، وأصيب المغاربة بهلع شديد بسبب كثرة الجثث في المدن والقرى على حد سواء، وشهدت الفترة الممتدة بين 1935 و1937م أحداثا كبرى أهمها انتفاضة المغاربة ضد الظهير البربري .
وعرف المغرب أيضا سنة 1944 جفافا حادا أفضى إلى مجاعة سماها البعض بعام “البون”، جعلت العديد من الناس خاصة في القرى إلى أكل الأعشاب رغم نذرتها، وإلى أكل “يرنا ”، وهي نبتة ذات أوراق خضراء وجذر أصفر يميل الى البياض تنبت في البراري، حتى سمي العام بعام “إيرنا أو إيرني”.حسب كل منطقة وتنوع اللهجات المغربية رافقتها كلمة “كانبو” وهي من الكلمات التي كانت تستعمل في السب والشتم .
في نفس الوقت كان العالم يعيش حربا مدمرة، “الحرب العالمية الثانية”، والمغرب بدوره كان تحت وطأة الاستعمار الفرنسي مما جعل الفرنسيين يستولون على “الصابة” أي كل ما يتعلق بالمنتوجات الفلاحية “الحبوب والقطاني وحتى القنب الهندي ” والحيوانية “رؤوس الأبقار والأغنام..”.
وظل الشعب المغربي يصارع آفة الجفاف والاستعمار، وكان من شروط الحصول على الأكل توفر “البون” لذلك سمي بعام البون ومن لم يحالفه الحظ أو الدهاء للحصول على البون كان ينعت “بالكانبو” نسبة إلى العبارة الفرنسية “( aucun bon) وهذا ما عرف في الأدبيات التاريخية المغربية بعام “الجوع والبون” مما دفع سكان القرى بالهجرة نحو المدينة .
ولظاهرة الجفاف جذور تاريخية تعود الى القرنين 16 و17 ميلادية كما أرخ لذلك “برنار روزنبرجي” و “حميد التريكي” حيث تمت الإشارة إلى أن المغرب عرف عدة سنوات من الجفاف نذكر على سبيل الحصر سنوات 1516-1517-1540-1661.
و منذ إعلان الإستقلال سنة 1956 شهد المغرب سنوات أخرى من الجفاف والمجاعة، ولازال يعيش على إيقاع أزمة الغذاء وأزمة التوريد بالمواد الغذائية والأولية، وفي ظل هذا الوضع التاريخي وقعت الحكومات المتعاقبة على المغرب في شخص الوزارة الوصية، “وزارة الفلاحة والصيد البحري” عدة مخططات بهدف الرفع من منسوب الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي وكان أبرزها مخطط المغرب الأخضر الذي انطلق سنة 2008 وانتهى في سنة 2020 وبعده تم إطلاق مخطط الجيل الأخضر(2020/2030) .
منذ إنطلاق الأول الى حدود اللحظة تقريبا 15 سنة؛ شهد خلالها إنطلاق عدة مشاريع ضخمة صرفت عليها عشرات الملايير التي تم رصدها لإنجاح هذه المخططات لكنها تفرقت كما يتفرق ماء المطر بين الوديان في غياب تام لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وغياب مبدأ المقاربة التشاركية في تنفيذ تلك المخططات على أرض الواقع، زيادة على ذلك غياب الكفاءة والفاعلية لأصحاب ذوي الشأن العام مما أفرز نوع آخر من الإقتصاد “إقتصاد الريع “.
ينتهي مخطط حتى يبدأ آخر دون الأخذ بعين الاعتبار وقت لتقييم نتائج الأول وامتلاك فرصة لتصحيحها ومعالجة أسباب وقوعها، ففي غياب تام لثقافة التقييم لايمكن الحديث عن التغيير والتطور. فهناك علاقة رياضية بين تغير الشيء وحركيته. كلما كانت الحركة متسارعة كان للتغير قيم عليا دون هدر للزمن مع تحقيق للنتائج المتوخاة “الأمن الغذائي والرقي الإجتماعي” ومادامت النتائج سلبية وغير مقبولة نهائيا مع المخطط الأول “المغرب الأخضر” فهذا يعني أننا وقعنا في فخ المخطط الثاني “الجيل الأخضر ” ونعيد نفس المراحل بنفس الأسلوب ونهدر ملايير أخرى وننتظر نتائج مغايرة، فكيف لها أن تكون مغايرة وهي خرجت من رحم يشكو من العقم “العقم الفلاحي والتنموي”.
لايخفى على أحد أن أي إصلاح كيفما كان لايمكن تنزيله بين ليلة وضحاها ولابد له من أسس وميكانيزمات للتنزيل.
انسجاما بالموضوع كان بالأحرى على الوزارة الوصية أخد الكثير من الوقت والعودة إلى أساس المنظومة الفلاحية “الفلاحين، المياوميين في القطاع، الخبراء الفلاحيين والزراعيين..” مع الإطلاع على التجارب الرائدة في المجال الفلاحي على المستوى العالمي “كندا، أمريكا، اوكرانيا..”، مع الأخد بعين الاعتبار الخصوصية المغربية “نوع التربة، نوعية المواشي، نوع المناخ السائد، احتياجات المواطنين، التحديات الراهنة..”، مع تملك الشجاعة أمام تقييم النتائج والوقوف أمام الإختلالات والتلاعبات والضرب بيد من حديد على كل من تهاون أو تلاعب بمصير أمة غارقة في العطش و غلاء أسعار المواد الفلاحية.
لكن السياسة الحكومية في البلاد ارتبطت مع توصيات البنوك العالمية دون التفكير في بناء إقتصاد فلاحي وطني قادر على تحقيق الإكتفاء الذاتي والإنفتاح على السوق العالمية مستقبلا.
وماتم حصده من المخططين من ديون ثقيلة وهدر للمال العام خير دليل على فوضى التسيير والتدبير وفي ظل تعاقب الجفاف والتقلبات الجيوسياسية للعالم والدول المنتجة للقمح لن يكون أمام المغرب سوى خيار الإنتقال إلى زراعة الحبوب والأشجار المقاومة للعطش مع توفير التسهيلات اللازمة لزراعاتها .
إن خيار الإنتقال إلى زراعة الحبوب والأشجار المقاومة للجفاف والتغيرات المناخية كأشجار الخروب والزيتون والأركان والصبار بشكل متواز مع تطوير أصناف أخرى من الحبوب معدلة وراثيا تكون موجهة خصيصا للغرض نفسه بغية إنقاذ ولو جزء صغير من الأرض المحروقة بفعل الجفاف مع التخلي عن زراعة البطيخ بكل أنواعه والأفوكا باعتبارها زراعات تستنزف الفرشة المائية.
هذه الاقتراحات مهمة لكنها غير كافية إذا لم يتم ربطها بتسريع وثيرة برنامج تحلية مياه البحر الذي يعد من أكبر المشاريع في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط يليه إنخراط الدولة في برنامج “تلقيح الغيوم أو الإستمطار الصناعي” هذا الأخير عبارة عن عملية إسقاط المطر من السحب بطريقة علمية تروم إشراك تكنولوجيا العلوم مع علم المناخ وتستخدم هذه الطريقة لتوليد مياه الري و توليد الطاقة الكهربائية كما يساهم في منع سقوط الأمطار الغزيرة في المناطق الزراعية خوفا من إتلاف المحاصيل، رغم ذلك هناك تخوف من طرف لجان البحث العلمي المهتمة بالموضوع من إستخدامه “الإستمطار الصناعي” في الحروب وتصفية الحسابات الدولية، كما لا يخفى على أحد ماهو عليه القطاع الفلاحي بالمغرب حاليا وماذا ينتظره وتكثر التخوفات من أن تصبح كل هذه البرامج جافة مثل سابقاتها من المخططات.
والطامة الكبرى أن نكون أمام عام جديد من الجوع والبون، بفضل الجفاف وما تروم الدولة تطبيقه من دعم اجتماعي مباشر، لأن ذاكرة الشعب قوية ولا تعرف النسيان وكما هو معروف على أن التكرار يعلم الحمار الدهاء أما الإنسان مرتبط جينيا بغريزة العودة للماضي بهدف إستنباط النتائج ودراسة مجريات التاريخ وحسب تعبير كارل ماركس “التاريخ يعيد نفسه المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة”.