التدريس بالنصوص كمدخل لتجويد تدريس الفلسفة


يشكل النص بلا ريب، أرضية أساسية يلتقي من خلالها عقل المتعلم بخطاب الفيلسوف، فهو إن صح التعبير فرصة للدخول في التصورات والمفاهيم المجردة كما يتصورها الفيلسوف بعيدا عن أي تأويل خارجي قد يفسد المعنى. إن استثمار النص في تدريس الفلسفة يتيح للمتلعم(ة) التحرر من عباءة الجاهز، كما يتيح للمدرس تجاوز النمطية والطرق الاعتيادية وإخضاع بناء التعلمات لمنطق خاص يحترم مكونات النص (التمفصلات الأساسية، بنيته المفاهيمية، منطق النص…)

يمكن أن نجد أنوعا متعددة من النصوص الفلسفية، مثل “النصوص التدرجية” أو “النصوص التقهقرية”، وهي على اختلافها تشكل خيوطا ناظمة لا يمكن فهمها إلا بالنظر إلا كل نص على أنه جزء لا يتجزأ من نسق فلسفي أعم وأشمل. فهذه القراءة اللاتجزيئية هي التي تجنب المدرس سوء الفهم. يمكن أن نعطي على ذلك مثالا وهو نص مارتن هيدجر ضمن إشكالية “العلاقة مع الغير” حيث يمكن لقراءة تجزيئية أن تفضي إلى فهم مغلوط مفاده أن “الوجود هنا” يمثل الأنا، والحقيقة أن هيدجر لم يقصد ذلك إطلاقا وهو المعروف بنقده لفلسفة الأنا باعتبارها شكلا من أشكال الميتافزيقا ومظهرا من مظاهر نسيان الكينونة. والأصح هو أن هيدجر يقصد الكينونة أي الوجود الخاص الذي يسعى للتعبير عن ذاته المتناهية في انسيابية الزمن. يتحدد “الوجود-هنا” باعتبارها كينونة لها علاقة خاصة بكونها وبكون الكائنات الأخرى، وهذه الكينونة تسعى لفهم ذاتها وتتحدد علاقتها بوجودها على أنها علاقة انشغال واهتمام داخل العالم. العالم المقصود هنا ليس عالما يمكن فهمه مقوليا ( بمقولات أرسطو) أو على شاكلة العلاقة بين العلة والمعلول، السببب والنتيجة، وإنما يجب فهمه بكيفية وجودية، العالم هو الأفق الذي تكتسب من خلال الاشياء دلالات (مارتن هيدجر، الكون والزمان، ترجمة إيمانويل مارتينو، الفقرة المتعلقة بعالمية العالم، النسخة الفرنسية)

إذا كان النص إذن يشكل ضرورة لا مناص منها لتجويد الدرس الفلسفي كيف تتحدد دلالة النص؟ هذا من وجهة نظرنا سؤال مركزي وأساسي.

ففي كتابه ” من النص إلى الفعل” يعرف بول ريكور النص بأنه “خطاب مثبت بواسطة الكتابة” وهذا معناه أن النص هو خطاب غير شفهي، وبالتالي، فإن نصا كهذا يتطلب أن يكون المدرس والمتعلم متمعنا قارئا وليس مجرد مستمتع. وسواء انطلقنا من تصور كانط لتدريس الفلسفة، أو تصور هيغل، وسواء قبلنا بفكرة أن فعل التفلسف منفصل عن تاريخ الفلسفة أو ملازم لها، فإن تعلم التفلسف لا يمكن أن يتم من فراغ وبدون إدراك للمنطق الداخلي الذي يربط مكونات النص.

هكذا، فإن النص يشكل آلية لا غنى عنها لاستفزاز عقل المتعلم، ودفعه بالتالي، إلى التموقع في صلب الإشكالية والتفكير من خلال النص في الإجاباب الممكنة وهنا يصبح دور المدرس دورا توجيهيا صرفا. إن المتعلم هو الذي يعمل على قراءة النص، والتعبير عنه فهمه له عبر مجموعة من التساؤلات، ويمكن أن يتم ذلك من خلال ثلاثة تساؤلات رئيسية:

1: هل تشكل مسالة ( كذا الموضوع الذي يناقشة النص ) أم يمكن النظر إليها باعتبارها  كذا؟ وهل بالفعل يمكن اعتبار ( القضية المطروحة في النص) هذه المسألة بمثابة…؟

2: ما هي وجهة نظر مؤلف النص ؟ أو ما هي الإجابات التي يقترحها بهذا الشأن؟ وكيف توصل إلى ذلك؟ وما هو المنطلق الذي استند عليه؟

- إشهار -

3: هل يتفق فلاسفة آخرون مع ما ذهب إليه مؤلف النص؟ وما الذي يبرر الاختلاف بين تصوره وتصوراتهم؟

إذا كان مجهود المتعلم ينصب أساسا على محاولة فهم النص في بعده المغلق، أي عبر فهم مكوناته في علاقتها ببعضها البعض، فإن مهمة المدرس يجب أن تكون هي توجيه عقل ذهن المتعلم من أجل أن ينجح في الارتقاء من مستوى تفسير النص إلى مستوى تأويله، أي قدرة المتعلم على استثمار النص والربط بين واقعة المعيش والعالم المحيط به.

ونكرر القول، إن أي نص فلسفي كيف ما كان، يشكل تحدي صريح لكثير من قناعاتنا وأفكارنا التي نستمدها من حياتنا اليومية، وبالتالي، فهو الطريق الوحيد الذي يمكن المتعلم من اختبار تلك القناعات، على أن مهمة المدرس –ضمن المرحلة التأويلية للنص- يجب أن تكون تعزيز قدرة المتعلم على الربط بين الأفكار الفلسفية وعالمه الخاص مع التركيز على البعد القيمي الذي يمكن أن يشير إليه النص إما بشكل مباشر أو غير مباشر وذلك بهدف تعزيز قيم التعايش المتشرك والتسامح وقبول الآخر.

محمد رتيبي: باحث في الفلسفة وفي طرق تدريسها

إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.
أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد