سيدي بوخيار… حكاية الجبل الأسطوري


• مقدمة

إلى عهد قريب لم يخطر على بالنا أن يحتفظ “جبل احمام”، حيث يوجد مزار سيدي بوخيار، بهذا الكم الهائل من الأسرار، بل حتى سكانه لا يصدقون ذلك إلى اليوم، ماعدا حديثهم عن ضريح سيدي بوخيار ولالة منانة وما نسج حولهما من قصص وأساطير، حتى أصبح مزارا ومحجّا سنويا لسكان الريف الأوسط خاصة. بينما هذا الجبل له كذلك أسرار باطنية بقيت إلى اليوم طي الكتمان، باستثناء ما وثقه الأجانب من خلال حركية تجار المعادن الأوربيين.

هؤلاء أطلقوا عليه بدورهم اسم “الجبل الأسطوري” أسوة بأصحاب الأرض، لكن ارتباطا بكنوزه الباطنية، والذين تنطبق عليهم نظرية أرسطو (جدلية الظاهر والباطن) التي ربطت الباطن بعالم المثل والميثولوجيا بدل الظاهر.

ففي سنة 1882 سيرسل بعض من تجار المعادن (المنضويين تحت شركات معادن فرنسا) خبيرا إلى هذه المنطقة، مرتديا لباسا محليا، من أجل إجراء دراسات محدودة وجلب معه بعض عينات التربة والحجر، هذا الحجر الذي كان يستعمله الريفي للتيمم في أوقات ندرة المياه في قمة الجبل أو لحك ظهره. بعد فحص هذه المواد في مختبرات فرنسا تبين أن جبل الحمام أسطوري فعلا، يتوفر في جوفه على معادن نفيسة من بينها معدن الذهب، عمل بعض هؤلاء التجار على الفوز بعقود البيع من عند بعض المالكين، بشرط أن يكون التنقيب بعيدا شيئا ما عن مزار سيدي بوخيار حتى يحافظوا للريفي على مكان للحج والعبادة والتذرع إلى الله لطلب الخير والبركة، وأن لا يثيروا غضبه. ففي غفلة عن الجميع فازوا بعقود البيع مدى الحياة.

ولم يخطر على البال كذلك أن يكون هذا الجبل الأسطوري منبع ولادة ظاهرة دموية معروفة بالريف وهي “أريفوبليك” التي سادت نهاية القرن 19 واستمرت حتى مع مجيء عبد الكريم.

هذه الظاهرة عاشها أجدادنا بدون أن تكون لديهم فكرة عن سبب نشوؤها، ومازالت إلى اليوم تلقي بظلالها على المجتمع الريفي. حاول الباحث والأستاذ محمد أونيا أن يضع الأصبع على الداء من خلال كتابه “عبد الكريم وأسطورة الإنفصال” باحثا عن جذور هذه الظاهرة، وقبله طبعا المؤرخ الراحل جيرمان عياش، كما كان للراحلة الإسبانية ماريا روزا الدور الكبير في رسم خريطة أوضح حول قصة التعدين والحرب الخفية حول كنوز الجبل الأسطوري.

كشفت ماريا العقود والأسماء والوسطاء من الفرنسيين والإسبان (والألمان) وأصحاب الأرض والمخزن، ماريا ستكشف “حربا أهلية” أخرى سادت بين شناقة التعدين استمرت زهاء عقدين من الزمن، ولم تهدأ إلا باحتلال الريف، لقد نقلوا صراعهم هذا إلى المحاكم الأوروبية ولجنة التحكيم في موضوع التعدين التي أسسها السلطان بظهير سنة 1914.

حين كان عبد الكريم على ظهر السفينة الحربية عبدة في طريقه إلى المنفى، سأله الصحافي “روجي ماثيو” إن كان يعرف الفرنسي “ليتليير”، أجابه عبد الكريم: “نعم إنه كالباقي وعدني بالشيء الكثير، لأنه كان مهتما بمعادن الريف (..)، غدروا بي وذهبوا لخدمة الإسبان…”، تصريح عبد الكريم هذا يعكس محنة عاشها الرجل مع هؤلاء ولم تنته إلا بالقبض عليه. هذا الفرنسي يكون قد أقام علاقات مع عبد الكريم الأب سنة 1913، وقد أقام شراكة مع الشخصية الباسكية المحبوبة عند عبد الكريم وهو الباسكي إيتشيفاريتا. هذا الأخير سيشتري جزءا من حقوق الفرنسي ليتليير في مناجم الجبل الأسطوري سنة 1917.

قوة إيتشيفاريتا في فرض نفسه كوسيط، بين عبد الكريم والإسبان حول أسرى الإسبان لم تأتي من فراغ. الثنائي ليتليير وإيتشيفاريتا كانا في تنافس محموم مع الطرف القوي الفرنسي Compte de Chavagnac. هذا الأخير حصل على عقود البيع، قبل سنتين من نزوله بجزيرة بادس سنة 1884، بطريقة غريبة ومريبة للتمتع مدى الحياة بالأملاك التي تنتمي لشخصين من أهالي سيدي بوخيار مقابل قرض.

في الفصل الذي يتناول فيه الباحث الأمريكي دافيد هارت الصلحاء والشرفاء بالريف، تحدث عن الولي الصالح سيدي بوخيار “الموجود في المنطقة العليا “لبومعدن” (أبو المعادن) حسب هارت وكما يبدو أن الإسم له علاقة بالمعادن. وربما أطلقه الأقدمون على هذا المكان.

• حقيقة إخفاء سر الجبل الأسطوري من طرف القدامى

يتساءل مهندس جيولوجي إسباني من خلال دراسة طويلة حول الموضوع، عن سبب إخفاء الرومان والفينيقيون والقرطاجيون المعلومات عن التعدين بالريف رغم أنهم كانوا ضمن الأوائل في استغلال هذه المناجم.

الفينيقيون والقرطاجيون والرومان الذين مروا بهذه المناطق، بشكل رئيسي سعوا إلى استغلال مناجم الذهب والفضة والرصاص والنحاس، ولم يذكروا وجود هذه الثروة المعدنية في هذه المنطقة، أو ربما أخفوا هذه المعلومات حسب نفس المصدر.

وكما يبدو أن الذين أتوا لاحقا بعدهم لم ينطلقوا من العدم في عملية البحث عن التعدين بالريف. يبدو كما لو كانت لديهم خرائط مسبقة، وإلا كيف يعقل أن يشتري بعضهم الأراضي في سيدي بوخيار مباشرة بعد مؤتمر مدريد 1880 وهم لم يسبق لهم أن زاروا هذه الأرض من قبل!، الدراسة تقول ان هذه البعثات كانت سرية بتكليف من الدول الأوربية.

• عائلة الخطابي ومسألة التعدين

أثناء اعتقال محمد بن عبد الكريم (عبد الكريم الإبن) في مليلية سنة 1915، تم الاستيلاء على 276 مراسلة في منزله. وحسب تقرير قاضي التحقيق أن معظمها يشير إلى شراء أراض ومناجم وأعمال أخرى… دون أي شيء يمكن أن يعرض المتهم للخطر. “مقتطف من تقرير قاضي التحقيق الإسباني بمليلية. الترجمة بتصرف طفيف”.

يفهم من خلال هذه المراسلات حجم التنافس المحموم بين القوى المتعددة من أجل السيطرة على معادن الريف. إسبانيا بدأت في استغلال بعض مناجم الريف الشرقي قبل هذه المدة بكثير، وخاضت حروبا من أجل مناجم ويكسان، بل ان هذه المناجم كلفت حياة المجاهد البطل أمزيان قبل أن تكلف حياة عبد الكريم الأب وأخرين.

فيما يتعلق بمسألة التعدين كان عبد الكريم الأب حريصا ألاّ يتم التفريط في هذه الثروات، وتصريف عائداتها فيما يساهم في ازدهار وتقدم ساكنته، لذا حاول أن يكون حذرا في تعامله مع تجار المعادن. فرغم كل الإغراءات، حاول عدم التسرع في إبرام الاتفاقيات مع هذا الطرف أو ذاك. موقفه هذا خلق له أعداء كثر. بل كلفه حياته كما قلنا.

دخل عبد الكريم الأب في صداقة مع رجل الأعمال الباسكي إيتشيفاريتا منذ سنة 1914. هذا الأخير كان يمتلك البواخر وجريدة. من خلال إيتشيفاريتا سيتوصل عبد الكريم الأب في أبريل 1920 إلى اتفاق مع شركة المعادن الباسكية “سيتولزار” ببدأ عملية التنقيب في 14 مكانا بالريف، اثنان في أيث ورياغل و12 في أيث توزين. ومع دخول سنة 1921 ستسلم هذه الشركة لعبد الكريم الإبن مبلغا ماليا يقدر ب 400.000 بسيطة مقابل استغلالها لهذه المناجم. وسيتمكن عبد الكريم الإبن من خلال هذا المبلغ المالي الهائل (في تلك المرحلة) من تمويل حاجيات الثورة وهي في بدايتها، حسب الباحث الإنجليزي ريشارد بينل، تناول الأرشيف الألماني هذه الاتفاقية وحيثيات أخرى مرتبطة بموضوع التعدين بالريف بكل تفصيل.

كان انتصار عبد الكريم في معركة أنوال الخالدة، البداية لتقنين عمليات التنقيب والاستغلال لمناجم الريف من طرف إسبانيا أو عملاء آخرين. وكان كل من أراد التحدث في مسألة التعدين عليه المرور من أجدير.

بعد بداية العمليات العسكرية بالجبهة الجنوبية ضد فرنسا، ستعقد فرنسا وإسبانيا مؤتمر مدريد شهر يوليوز 1925 لدراسة العمل المشترك وعملية إنزال الحسيمة التي ستحصل لاحقا مع بداية شتنبر من نفس السنة. وكانت ضمن الاتفاقات بين الدولتين، بالإضافة إلى مراقبة دخول السلاح والمؤن والأفراد إلى الريف، توقيف عمليات التعدين وذلك حتى لا يستفيد عبد الكريم من عائداتها. من هنا كلام عبد الكريم لماثيو حول انقلاب شناقة التعدين عليه وانتظار عودتهم بعد السيطرة على الريف.

عندما تقدمت إسبانيا من جهة الشرق وسيطرت على آخر قلاع عبد الكريم في منطقة سيدي عبد الله بنيوسف يوم 28 ماي 1926 (في قلب الجبل الأسطوري) ستضع يدها على “كنز ثمين” يتمثل في أرشيف وأفكار حول التعدين، كما يبدو حاول عبد الكريم التخلص منها، وذلك من خلال دسها في مكان ما بجانب خيمته حتى لا تشكل حملا ثقيلا له أثناء التحقيق معه لاحقا إذا ما سقط في يدهم، إلا أنهم وصلوا إليها. تفاصيل الحصول على هذه الأوراق جاءت في مذكرات أحد الضباط الإسبان الذي كان مشاركا في العملية. ويذكر هذا الضابط ضمن مذكراته أنهم وجدو هناك كذلك راية جمهورية الريف التي توجد حاليا في متحف طوليذو.

عند أسر عبد الكريم كانت أول حصة استنطاق له في تازة من قبل الضابط ساني (الذي رافقه إلى لاريونيون) حول مسألة التعدين والسلاح، وعند وصوله إلى فاس تم عزله عن الباقي من أجل استكمال التحقيق معه في ثلاثة مواضيع أساسية: التسليح، التعدين والمقاتلين الأجانب، دام هذا الاستنطاق 8 أيام ليل نهار، نفس الشيء حدث مع عمه عبد السلام في مكان آخر.

عند انتهاء التحقيق معه أخبروه أن ما تم احتجازه عنده من مواد المعادن النفيسة (الفضة والذهب) تم تصريفها إلى مبلغ مالي يقدر ب 500 ألف فرنك فرنسي (مبلغ هائل) ووضعه له في البنك، وذلك رغم احتجاج عبد الكريم على هذه العملية، هذا العدد المالي سينتقل إلى حساب في بنك إنجليزي وفق أرشيف لاريونيون، وسيستعمله عبد الكريم عند شراءه لقطعة أرض سنة 1937 في منطقة les trois bassins بلاريونيون، مع اقتراضه لمبلغ آخر من عند عائلة كرامجي على اعتبار أن مبلغه كان غير كافي.

عملية تصريف هذه المواد المعدنية إلى مبلغ مالي في ظرف قياسي بعد اعتقاله يعطي فكرة حول مدى إدمانهم على هذه المادة التي بسببها سقطت عدة رؤوس.

ويتبين اهتمام العائلة الخطابية أكثر بتعدين الريف من خلال ولوج ابنها امحمد الخطابي (شقيق محمد) المدرسة العليا للمعادن بمدريد سنة 1917، بعد حصوله على شهادة البكالوريا، وذلك من أجل بناء أطر وطنية قادرة على تسيير واستغلال هذا الكنز الثمين. ويقول مصدر ألماني أن إيتشيفاريتا كان يزوره باستمرار في مدريد.

• مصير الجبل الأسطوري بعد أسر عبد الكريم

- إشهار -

بعد أسر عبد الكريم وإعلان انتهاء العمليات العسكرية بالريف من باب تازة يوم 14 يوليوز 1927 من طرف سانخورخو. انتظم شناقة التعدين في “الشركة الإسبانية لمعادن الريف” التي تأسست أصلا في بداية القرن الماضي. لقد تم تسجيلها في مدريد يوم 21 يوليوز 1908. لعنة هذا اليوم ستلاحقهم في أنوال.

هذه الشركة سيتم توسيعها واستقطاب المزيد من رؤوس الأموال إليها حتى وصل رأسمالها الاجتماعي بعد 1928 إلى 80 مليون بسيطة، ووصل عدد الأسهم المنقولة إلى مليون وستة مائة ألف سهم، حسب أرشيف خاص.

في مسار هذا النبش سألتقي في إسبانيا بورثة أحد الإسبان المساهمين في هذه الشركة. والدهم لم يكن فقط مساهما بل مشرفا كذلك على الأرض نظرا لخلفيته العسكرية ومعرفته الجيدة بأرض الريف. اختار الإشراف على مناجم الجبل الأسطوري شخصيا (ضمنه شقران الذي يوجد في محيطه طبعا). رغم بعض التحفظ الأولي الذي أبداه ورثته في تناول هذا الموضوع وإعطاء المعلومات حوله، لكن مكنوني في الأخير من معلومات هامة من بينها رقم سهم والدهم الذي يحمل ستة أرقام تفوق شيئا ما 600.000 وكذا لوغو الشركة وتفاصيل التأسيس والمجلس الإداري.

سيتم إنهاء هذه الشركة المكلفة باستغلال مناجم الريف قانونيا سنة 1984 وذلك مباشرة بعد رحيل هذا المشارك. وهذا يبين قيمة هذا الشخص ضمن هذه الشركة. عندما سألت الورثة عن نوعية هذه المناجم التي كان يديرها والدهم، أجاب أحدهم بشيء من الخجل: “ما يشبه الذهب والفضة”، عملت هذه الشركة على التنقيب على مجمل هذه المعادن ونقلها إلى إسبانيا.

من أجل أخذ فكرة حول بشاعة هذا الاستغلال يرجى مشاهدة حلقة من برنامج أمودّو حول الحسيمة. الكاميرا دخلت إلى أحد هذه المناجم في محيط جزيرة بادس. الشركة “نهشت” الجبل كله من الداخل حتى وصلت إلى الماء. ثم ستنسحب من ذلك المكان دون أن تؤدي مستحقات العمال من أهل البلدة. أعتقد أن برنامج أمودو توقف مباشرة بعد هذه الحلقة.

فهمت من خلال هذه العائلة أن عقود بيع وشراء أراض ضمن الجبل الأسطوري، منذ سنة 1882، توجد ضمن الأرشيف الإسباني في سبعة صناديق مرقمة من حرف A إلى حرف E وأن عقود بيع الأرض بسيدي بوخيار توجد ضمن حرف A، هذا الكلام رغم عموميته جاء متطابقا تقريبا مع دراسة إسبانية حديثة.

• لعنة الجبل الأسطوري والأطماع الأجنبية

بدأت الأطماع الأوربية تتزايد بالريف، كما قلنا، مباشرة بعد مؤتمر مدريد لسنة 1880 الذي سمح “لأول مرة للبلدان الأوربية بحق الملكية العقارية في المغرب”، الشيء الذي شجع القوى الأوربية على شراء الأراضي بالريف من أجل الأنشطة المعدنية. هذه الخطوة جعلت القوى الأوربية (فرنسا، إسبانيا وألمانيا وهولندا وإيطاليا…) تتنافس بشكل محموم للحصول على عقود الشراء من عند الوسطاء أو السكان المحليين.

انعقد هذا المؤتمر بحضور ممثلي الدول الأوربية والولايات المتحدة والمغرب. أخطر ما خرج به هذا المؤتمر، بجانب حق الأجانب في اقتناء ممتلكات عقارية، هو توفير الحماية القنصلية للمتعاونين والعملاء المغاربة بدون خضوهم للقانون المغربي (البند 11 و12). تسليم بطاقات الحماية ساهمت في ارتفاع عدد المحميين والعملاء بعد المؤتمر.

فبموجب هذا الإتفاق (مؤتمر مدريد) حصلت شركة الفرنسي Compte de Chavagnac سنة 1882 على عقود شراء الأراضي في جبل الحمام القريب من مزار سيدي بوخيار، الغني بالمعادن النفيسة. لقد حصلت على هذه العقود من وسطاء المنطقة أهمهم الحاج حدو الباشا، ومما يؤكد على وجود عملاء ووكلاء من أهالي المنطقة يشتغلون في السر لصالح هؤلاء، هو أن بعض عمليات شراء الأراضي بهذه المنطقة تتوافق مع عام 1882، أي في تاريخ سابق لرحلة “كونت دي تشافانياك” إلى الريف. هذا الأخير نزل لأول مرة بساحل جزيرة بادس يوم 14 يناير 1884 برفقة زوجته، حاملا معه رسائل عدة لزعماء القبائل المجاورة، وذلك بهدف الإشراف على استغلال مناجم الذهب بسيدي بوخيار.

• الجبل الأسطوري والفتنة الكبرى

عملية دخول الأجانب وامتلاكهم لأراض تحتوي على المعادن أحدثت فتنة بين فئتين من المواطنين. هناك من أراد تقديم الخدمات والتوسط في شراء أراض لصالح الفرنسيين وهناك من هم ضدهم ومستعدون للدخول في مواجهتهم ولهم ولاء لإسبانيا، خاصة بعد اكتشاف منجم الذهب في جبل سيدي بوخيار الذي يقع في قلب قبيلة أيت ورياغل. الفئة المدافعة عن التجار الفرنسيين تم منحهم الحماية من طرف القنصلية الفرنسية بتطوان، أما الفئة الأخرى اختارت التقرب أكثر من إسبانيا والتحالف معها.

ويسجل أوجيست مولييراس الذي أصدر سنة 1895 كتابه الشهير “المغرب المجهول، اكتشاف الريف”، أن جماعة من بني ورياغل هاجمت أحد المتعاونين مع الفرنسيين (علي بن يحيى) وأحرقت ونهبت منزله عندما لم يعثروا عليه.

في ظل هذا التدافع المصلحي والقبلي تشكل ما سمي ب “الريفوبليك” وسط قبائل الريف وصنهاجة، الذي تحول إلى نوع من الحرب الأهلية.
أمام هذه التطورات والتجاذبات انتعشت وانتشرت تجارة السلاح بشكل كبير بالريف، خاصة داخل قبيلة أيت ورياغل. حيث أصبح السلاح يتدفق من هامبروغ وجبل طارق والجزائر عن طريق مهربين أجانب وريفيين.

يسجل مولييراس ضمن كتابه، اكتشاف الريف الذي أصدره سنة 1895 بالجزائر، أن عدد المسلحين الذين أصبحت عليهم قبيلة أيت ورياغل وحدها في مدة تقل عن عشر سنوات هو 40 ألف مسلح تقريبا، في قبيلة كان عدد سكانها حينها يقدر ب 200 ألف نسمة. كان أغلبهم مسلحين ببنادق إنجليزية وإسبانيا وكذا قدوم شحنات السلاح من هامبروغ تحملها بواخر ألمانية ليتم إفراغها في جزيرتي بادس والحسيمة.

ومن أجل تشجيع هذا الإقتتال ودوامه، وبالتالي تعزيز موقع الطرف المساند له، عملت إسبانيا من جانبها على تخصيص مرتبات أو معاشات شهرية لبعض أفراد ساكنة قبائل الساحل الريفي الموالين والمناصرين لها، وبفضل هذا النهج بلغ عدد المستفيدين من هذه المعاشات المئات حتى قبل توقيع معاهدة الحماية سنة 1912. اختارت إسبانيا رؤساء العائلات والقبائل أكثر نفوذا وثراء ضمن هذه الخريطة. فكلما كان المرء ذا نفوذ كبير بقبيلته كلما كان معاشه مرتفعا (250 بسيطة).

هذا الاقتتال بين قبائل الريف والعائلات النافذة سيحصد العديد من الضحايا، كما سيمكن الإستعمار الإسباني من التغلغل أكثر في الكثير من أجزاء الريف الشرقي من أجل استغلال مناجم الحديد مع ربط خط السكك الحديدية بين هذه المناجم ومليلية، مع استمرار حلمه في تحقيق إنزال عسكري على ساحل الحسيمة. من جانبها تمكنت فرنسا من التغلغل في منطقة كزناية وترتيب تواجدها العسكري في منطقة ورغة وبني زروال.

بقي الوضع على هذا الحال حتى امتدت أيادي الغدر إلى اغتيال عبد الكريم الأب من طرف أحد هؤلاء المتعاونين…

استلم عبد الكريم الإبن المشعل في وسط الفوضى وغابة السلاح واقتتال القبائل فيما بينها. إنها الخطة التي حبكتها فرنسا وإسبانيا حتى تنفرد بالريف وموارده الطبيعية والفلاحية. يقول عبد الكريم الإبن ضمن مخطوط ساني، واصفا الوضع الذي كان عليه الريف بعد وفاة والده كالتالي: ” كان الريفيون وقت وفاة الوالد كما كان قبله في حالة الفوضى والتقاتل والنهب والتعدي وضياع الحقوق وعدم الأمن عن النفس والمال، لكن مع هذا كله تجدهم يتحدون وقت الشدة…”. رغم الالتحام الكبير لأهل الريف بقيادتهم، لكن جيوب المتعاونين والخونة بقيت تشتغل من أجل تدمير الثورة من الداخل. والكلام يطول في هذا المقام.

وفي الأخير…

فبالإضافة إلى توفره على المعادن النفيسة، شكل الجبل الأسطوري خزانا للمياه العذبة للريف الأوسط بفضل تساقطات الثلوج عليه طوال فصل الشتاء، ومصدرا للخشب والمواد الفلاحية المتنوعة من بينها العسل بجودة عالية، والذي كان يزين موائد الفطور في قصور المغرب ومدريد…

جمال الكتابي، مهتم وباحث في تاريخ الريف – أمستردام 23 يوليوز 2023.

• لائحة المراجع.

– محمد أونيا، “عبد الكريم وأسطورة الإنفصال”.
– ريشارد بينل، “دولة بحكومة وراية، حرب الريف…”.
– روجي ماثيو، “مذكرات عبد الكريم”.
– مخطوط ساني.
– محمد بنعزوز حكيم، “مذكرات شاهد عيان إسباني”.
– ماريا روزا ذي مادارياكا، “حدو بن حمو”.
– ماريا روزا ذي مادارياكا، “في خندق الذئب”.
– ماريا روزا ذي مادارياكا، “محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الإستقلال”.
– أوجست مولييراس، “المغرب المجهول، اكتشاف الريف”
– أوجيست مولييراس، “المغرب المجهول، اكتشاف جبالة”.
– مجلة نقد جزائرية، “عبد الكريم الخطابي وتحرير المغرب الكبير”.
– دافيد مونتكوميري هارت، “أيث ورياغل قبيلة من الريف المغربي”.
– جرمان عياش، “أصول حرب الريف”.
– حسن بدوي، “محمد بن عبد الكريم الخطابي ودوره في تحرير شمال أفريقيا”.
– “من الشمال إلى الشمال، ريفنا، الماضي والمستقبل”، ورثة لاكايي (بالإسبانية).
– زكية داود، “عبد الكريم ملحمة من الذهب والدم”.
– مذكرات جندي كندي من اللفيف، “على درب المغرب الغير الخاضع”، (بالفرنسية).
– فانسانت بيدرو، “محرقة أجدير”، (بالإسبانية).
– بحث نيل شهادة الماستر حول إنزال الحسيمة لكولونيل فرنسي، دراسة حديثة (بالفرنسية).
– خوان أنطونيو كوميس، “محمد بن عبد الكريم الخطابي الأجديري الورياغلي، من خلال الوثائق الرسمية الإسبانية، (بالإسبانية).
– ليون غابلييلي، “عبد الكريم وأحداث الريف”. (بالفرنسية).
– اتفاقيات مؤتمر مدريد سنة 1880.
– مقالات ودراسات إسبانية وفرنسية ومغربية مختلفة.
– شهادات وأرشيف خاص.

إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.
أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد