هل أفلت المغرب من شباك إسبانيا؟
بدأت في صمت وانتهت بهدوء.. وفي الوقت الذي لم يعلن فيه المغرب لا عن انطلاقها ولا عن توقفها، قالت الحكومة الإسبانية، وفي سياق ردها في مارس الماضي على سؤال وجهه السيناتور فرناندو كلافيجو عن ائتلاف جزر الكناري، حول مفاوضات نقل إدارة المجال الجوي في الصحراء إلى الرباط “أنها بدأت بالفعل”، قبل أن تخرج صحيفة “ألكونفيدنوسيال” الجمعة الماضي لتنقل عن مصادر دبلوماسية لم تسمها، أن “الحكومة قررت بسبب التقدم الانتخابي والانتهاء المرتقب للهيئة التشريعية، وقف نقل إدارة المجال الجوي للصحراء من جزر الكناري إلى المغرب”، من دون أن يدري أحد ما الذي جرى بالضبط، وما الذي حصل في غضون أكثر من شهرين من المفاوضات؟ أو يعرف لما تطلبت العملية أصلا كل ذلك الوقت؟ قد تبدو الآن وكأنها النتيجة الحتمية للضغوط الداخلية الرهيبة، التي تعرضت لها حكومة بيدرو سانشيز على امتداد عدة شهور لدفعها للتراجع عن موقفها من المغرب.
غير أن ذلك يطرح، أكثر من علامة استفهام كبرى حتى لو أرجعه البعض وباختصار إلى رفض قوى وأحزاب إيبريية معروفة لما تعتبره رضوخا غير مبرر أو مقبول من جانب مدريد للرباط، فما الذي يمنع من أن يكون مثل ذلك الترتيب مدبرا ومتفقا عليه ولو بشكل ضمني؟ أليس واردا أن يكون الهدف الحقيقي من ورائه هو، ليس مجرد إسقاط الحكومة في معركة انتخابية صغيرة أو محدودة، بل نصب الشباك للإيقاع بالجارة الجنوبية في معركة حضارية وجيوسياسية معقدة ومفتوحة؟ من المؤكد أنه لن تتضح الآن كل خيوط اللعبة وهوامشها وتفاصيلها، فلن يكون واردا بالمرة أن يكشف عما إذا حصل بالفعل نوع من التواطؤ الضمني وغير المعلن بين الحكم والمعارضة، للوصول إلى تلك النتيجة ما جعل الطرفين يتبادلان الأدوار لإخراج المشهد على النحو الذي ظهر عليه.
غير أن هناك بعض الشواهد والمعطيات التي قد تثير، وعلى أي حال، قدرا واسعا من الشك والريبة حول طبيعة ما جرى في الفترة الماضية.
وهنا قد يتساءل كثيرون ربما وفي هذا الجانب بالذات، عما قدمته مدريد للرباط بعد أكثر من عام من عودة الدفء الى علاقاتهما؟ إن ما يعرفه الجميع ويقرون به بالطبع، هي أنها أعطتها اعترافا تاريخيا وثمينا بمغربية الصحراء. لكن ما الذي كسبه المغرب عمليا من وراء ذلك؟ هل حاول الإسبان المضي أبعد والخروج من دائرة إطلاق الوعود الناعمة والتصريحات الوردية، وعملوا بالفعل على تحريك الموقف الأوروبي من تلك القضية، وتغيير مساراته واتجاهاته؟ هل فتحوا، ولو في حركة رمزية على سبيل المثال، قنصلية لهم في الصحراء؟ وهل أعلنوا ومن منطلق ذلك الاعتراف نفسه عن تخليهم ومن جانب واحد، على الأقل، عن إدارة المجال الجوي للمنطقة؟ وهل قبلوا بترسيم الحدود البحرية بين البلدين؟ لا شيء حصل من ذلك، بل إنهم سعوا، وعلى العكس تماما، إلى أخذ مقابل باهظ من جارتهم الجنوبية على امتداد أسابيع طويلة، وعملوا بلا كلل أو ملل على انتزاع اعتراف تاريخي منها بإسبانية سبتة ومليلية وباقي الجزر والثغور المغربية المحتلة، وهذا ما يجعل الأفق ضبابيا بعض الشيء. فماذا سيحصل إن فشل بيدرو سانشيز وحزبه، كما قد تدل على ذلك معظم الاستطلاعات والتوقعات، ولم يفز بالانتخابات التشريعية التي ستجرى بعد أقل من شهر في إسبانيا؟ هل سيحدث انقلاب جديد في تلك العلاقات يخلط الأوراق ويقلبها رأسا على عقب؟.
إن ما يرجحه البعض هو أن الإيبيريين سيصححون على الأرجح ما وصفه أحد المعلقين “بالخطأ الجسيم” الذي ارتكبه رئيس وزرائهم الربيع قبل الماضي، حين أقر وبشكل مفاجئ بأن الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب للصحراء هو الحل الأنسب والأفضل لذلك النزاع المزمن. لكن هل من المنطقي أن يحصل ذلك؟ وهل سيكون بمقدورهم أن يتنصلوا بسرعة من ذلك الإقرار، خصوصا متى صعدت حكومة يمينية لقيادتهم؟.
سيكون من العبث حقا أن يتصور أحد أن ذلك الملف سيترك في عهدة حكومة ما، ولن يكون له ارتباط بجهة أخرى داخل الدولة على صلة مباشرة بالأمن القومي الإسباني. فالأوضاع ليست ربما بالبساطة التي قد يتصورها البعض.
ولعل ما قالته وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة ارانشا غونزاليس ليا، منذ فترة حين وصفت الموقف الاسباني من الصحراء بأنه “يظل دائما دون تغيير” لأنه “سياسة دولة” قد يترجم وإلى حد كبير جزءا من تلك الحقيقة، إذ بات معلوما أن من يمسك بالملف ويديره لا بحسابات انتخابية محدودة، بل ضمن رؤية أوسع وأشمل هي ما تعرف بالدولة العميقة، التي تضم إلى جانب الكتلة الصلبة، أي الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات كل مراكز القوى والنفوذ السياسي والمالي وحتى الثقافي والديني في البلاد. ومحركها الأساسي ليست الشعارات والوعود، بل مصلحتها العليا أولا وقبل كل شيء. وهنا لم يكن من قبيل الصدفة أبدا أن يردد بيدرو شانشيز، ومنذ الساعات الأولى التي طار فيها في أبريل قبل الماضي إلى الرباط للقاء العاهل المغربي بعد شهور متواصلة من الجفاء بين الجانبين، أن الموقف الإيبيري الجديد من نزاع الصحراء هو “الأفضل للمصلحة العامة لإسبانيا”، من دون أن يغفل عن التأكيد في الوقت نفسه على أنه، أي ذلك الموقف “يظل في إطار الأمم المتحدة”. لقد كان وعي الإسبان وإدراكهم للحساسية الشديدة التي تمثلها الصحراء بالنسبة للمغرب هو الذي جعلهم يتحركون لا للاستجابة للتطلعات والآمال المغربية المشروعة هناك، مثلما قد يعتقد البعض، بل لتحقيق مكاسب بعيدة المدى لصالح أمنهم القومي. وتلك المكاسب ليست مالية واقتصادية، فحسب من خلال منافسة فرنسا في حديقتها الخلفية، والوصول إلى مرتبة الشريك الاقتصادي الأول للمغرب ولا حتى ثقافية، بتوسيع نطاق استخدام اللغة الإسبانية في الجارة الجنوبية، بل سياسية واستراتيجية في الأساس، وذلك دفع المغاربة ولو بطرق ملتوية إلى التنازل عن الحق في المطالبة بمدنهم وأراضيهم التي لا تزال خاضعة للاحتلال الإسباني. لقد نجح شانشيز ومن ورائه الحزب الاشتراكي الإسباني الحاكم، وبلا شك في إقناع المغرب بالموافقة على تحويل سبتة ومليلية إلى مركزين جمركيين، ما يعني نظريا إقرارا من جانب المغرب بأنهما بلدتان إسبانيتان. لكن هل كان بإمكان الرباط أن تمضي أبعد من ذلك، وتكرس بشكل عملي ذلك القرار، في وقت رأت فيه كيف يتقدم الإسبان نحوها خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء؟
إن تصريحات رئيس مجلس المستشارين في أبريل الماضي، التي قال فيها إنه “سيأتي اليوم الذي سيسترجع فيه المغرب مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين عبر التفاوض الجاد، ومن دون اللجوء إلى لغة السلاح”، ثم الرسالة التي بعثتها الرباط أواخر ماي الماضي الى المفوضية الأوروبية للاحتجاج على وصف أحد مسؤوليها للبلدين بالإسبانيتين تدلان وبوضوح على أن المغرب لم يلق بعد بكل بيضه في السلة الإسبانية حتى وإن توهم البعض عكس ذلك.
نزار بولحية – كاتب وصحافي