ولي العهد الأمير مولاي الحسن.. و”مِهنة” ملك: ماما فرنسا ودسائس القصر 2/3
كان مثيرا أن يكون أول نشاط يقوم به ولي العهد الأمير مولاي الحسن، مباشرة بعد تحرّره من مجلس الوصاية، ببلوغه سن العشرين، هو أن يحضر الذكرى السابعة والستين لتأسيس القوات المسلحة الملكية، ويترأس مأدبة الغداء نيابة عن والده الملك محمد السادس القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية.
والأكثر إثارة هنا هو أن يقوم الملك، أسبوعين قبل ذلك، بتعيين وجه جديد على رأس المفتشية العامة للقوات المسلحة الملكية وقائدا للمنطقة الجنوبية وهو الفريق محمد بريظ، خلفا للفريق أول بلخير الفاروق، الذي كان اقترح على الملك محمد السادس، قبل ثمانية أشهر فقط، إحالة 16 جنرالا برتبة دوديفيزيون ودوبريكاد و32 كولونيل ماجور وعشرات الضباط برتبة كولونيل ورتب عسكرية أخرى، على التقاعد، لضخ دماء جديدة في الجيش والدرك.
وقد يكون كل هذا استعدادا لأول دخول لولي العهد للمؤسسة العسكرية، وتسريع إعطائه رتبة عسكرية، كما كان الحال بالنسبة لجده الملك الحسن الثاني، الذي كان والده المرحوم محمد الخامس قد عينه قائدا للقوات المسلحة الملكية، وترك له بناء الجيش النظامي مباشرة بعد عودتهم من المنفى، حيث اضطر وقتها إلى الاعتماد على نخبة عسكرية مغربية خدمت وتكوّنت وترقّت في الجيش الفرنسي أساسا، كالجنرال إدريس بن عمر والكولونيل محمد أوفقير والقبطان أحمد الدليمي والمارشال محمد أمزيان، الذين سيؤسس بهم الجيش المغربي، ليسحب البساط من تحت جيش التحرير بإدماجه فيه، حيث جرى الاعتماد في هذه العملية على الدكتور عبد الكريم الخطيب، ومعه المحجوبي أحرضان، مما زاد من غضب “الحركة الوطنية” آنذاك.
وعلى مدى 38 سنة من الحكم، عرف الراحل الحسن الثاني كيف يقضي على “المتآمرين” و”الانقلابيين” و”يصنع” مؤسسة عسكرية حديثة واحترافية، ككل الجيوش الاحترافية في البلدان المتقدمة، التي حسمت “نهائيا” مع عهود الانقلابات، التي مازالت سائدة لدى بلدان يعتبر فيها الجيش ركنا أساسيا في المشهد السياسي…
هذا المشهد أي السياسي بدوره تمكّن الراحل الحسن الثاني من “التحكّم” فيه، فجاء بجيوب المقاومة التي تفننت في تعذيب النخب اليسارية وقهرها ورميها في غياهب السجون عبر محاكمات صورية أعدتْ أحكامها في الدهاليز السرية آنذاك، كما تردد ذلك خلال جلسات تصفية ملفات سنوات الرصاص.
ومن خلال ذلك، تحكم الحسن الثاني في مؤسسات البلاد، من المؤسسات السياسية، إلى المؤسسات الأمنية وأجهزتها السرية والعلنية، وخلال هذه المسيرة “التحكّمية”، كان للملك الراحل دسائس يناوش بها “خصومه” وحتى “أعداءه”، بلجوئه إلى اعتماد “حيلة” “تشابه الأسماء” لخلط الأوراق كتعيين المعطي بوعبيد وزيرًا أولَ ليتشابه على الداخل والخارج علاقته بعبد الرحيم بوعبيد، أحد القادة البارزين لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وهي نفس العملية، التي نهجها الراحل الحسن الثاني، بعد جلبه شخصا اسمه إدريس البصري، نكاية في الفقيه البصري، أحد قادة الاتحاد المنفيين وأبرز المتبنّين لخيار المعارضة المسلحة، بعد تواتر أنباء عن تخطيطه لمحاولة قلب نظام الحكم الملكي، فقام الملك الراحل بدافع الخلط بين أسمي الرجلين بتعيين إدريس البصري على رأس جهاز الاستخبارات في 13 يناير 1973، ثم بعد إحباط أحداث مولاي بوعزة، التي كانت عناوينها تمتد من بنونة ودهكون لتصل إلى الفقيه البصري، سيعيّنه كاتبا للدولة في الداخلية في 26 أبريل 1974…، ثم سيتحوّل إلى اليد اليمنى للملك الراحل الحسن الثاني والرجل القوي في الدولة إلى أن أقاله الملك محمد السادس من منصبه بعد خمسة أشهر فقط من اعتلائه العرش في يوليوز 1999، ليسطع نجم رفيق دراسته فؤاد عالي الهمة، الذي اختاره الملك الراحل الحسن الثاني ليكون في فوج ولي العهد آنذاك، بعد أن أثار انتباهه اسمه العائلي “فدسّه” بديوان إدريس البصري ليفهم عمل أم الوزارات من الداخل.
لم يكن أحد يعرف شيئا، آنذاك، عن رفاق ولي العهد سيدي محمد، إلى أن تولى المُلك، فبدأ المغاربة يتعرّفون على وجوه جديدة من المسؤولين السامين هم فريق دراسة وطفولة وشباب الجالس على العرش اليوم الملك محمد السادس، ومُعدّو مرحلة المُرور السلس لحكم ولي العهد الأمير مولاي الحسن غدًا.
شعار الملك محمد السادس، يقول فؤاد عالي الهمة، هو “ماذا نترك لأبنائنا، ومع من نتركهم؟”، سؤال طرحه رفيق الملك بعد أن خرج للعمل من خارج أسوار القصر، مبررا الأمر بقوله خلال كلمة ألقاها بمدينة وجدة: “عندما مات أبونا الحسن الثاني، وجاء أخونا محمد السادس، رُمِينا في البحر”، في إشارة إلى “مِحن” الفريق الجديد وهو يباشر الدخول إلى معترك الحكم، في ظل إبعاد الملك الراحل لولي عهده من “التورط” في سنوات الجمر والرصاص، واختلاف ولي العهد عن والده الملك، حسب ما صرح به الملك محمد السادس نفسه للصحافية آن سنكلير بقوله “والدي كان يعرف أن لدي وجهات نظر أخرى، لكنه عوّدنا دائماً على احترام اختلافات الأجيال”…
هذا المفهوم كان وراء تلبية القصر لطلب لقاء رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف الراحل إدريس بنزكري، ومعه أعضاء المنتدى خديجة الرويسي وعبد الكريم المانوزي وصلاح الوديع، الذي كان قد لجأ إلى المرحوم محمد امجيد، كي يتوسط لهم في هذا اللقاء، الذي تم في السر ببيت فؤاد عالي الهمة في ماي 2002.
واختلاف وجهات النظر، واحترام الجيل الجديد للجيل القائم، كما قال الملك في حديثه الصحفي، كان وراء عدم تعيين الملك محمد السادس لعبد الرحمن اليوسفي، “عراب انتقال الحكم” بالمغرب، في منصب الوزير الأول، رغم أن حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تصدّر نتائج أول انتخابات تشريعية في العهد الجديد سنة 2002، فلم يستسغ اليوسفي أن يُعيّن الملك مكانه رجلا غير منتمٍ (إدريس جطو)، مما دفع المكتب السياسي للحزب، المجتمع برئاسة اليوسفي، إلى أن يستنكر قرار الملك هذا، الذي اعتبر أنه خروج عن “المنهجية الديمقراطية”، لكن المكتب السياسي سرعان ما ترك “الخروج عن المنهجية الديمقراطية” وراء ظهره ليشارك في الحكومة الجديدة، بداعي أن الحزب لا يمكن أن يترك لجطو مصير الأوراش التي فتحها في عهد اليوسفي، وأن “المصلحة” تقتضي مشاركة الحزب لاستكمال الأوراش المفتوحة…
وظل الراحل عبد الرحمان اليوسفي يحمل هذه “الغصة”، التي أخرجته من السياسة، في قلبه، طيلة 14 سنة، إلى أن بادر الملك محمد السادس بزيارة عبد الرحمان اليوسفي، يوم 17 أكتوبر 2016، بمستشفى الشيخ خليفة بالدارالبيضاء، بعد إصابته بوعكة صحية، وقبّل الملك رأس اليوسفي في شبه “اعتذار”، وفهم اليوسفي أن احترام الملك له، وكذا احترام والده الراحل الحسن الثاني له، كان وراء تفادي الاشتغال مع اليوسفي، حيث أكد له ذلك رفيق دربه محمد بنسعيد أيت إيدر، الذي زاره مع رفيقين آخرين، هما سعيد بونعيلات ومحمد بنحمو كاملي، وهم الأربعة، الذين سبق الحكم عليهم بعقوبة الإعدام في أحداث ومحاكمات مختلفة بعضها من طرف الفرنسيين بصفة هؤلاء مقاومين للاستعمار الفرنسي للمغرب، وأخرى بصفتهم معارضين لنظام الحكم في المغرب.
( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )
يُتبع
مراد بورجى