خليل الهاشمي الإدريسي.. نم قرير العين فقد عملت واجتهدت وأخلصت وأعطيت…
تعرّفت عليه منذ أزيد من 26 سنة، قد تتفق معه وقد تختلف.. لكن، في الحالين معا، لا يمكن إلا أن تعترف أنه واحد من كبار الفاعلين في محراب صاحبة الجلالة، بصم عليها بنكهته الخاصة، وأبحر في فضاءاتها المتعددة بموجته الخصوصية… هذه هي الصورة، التي حضرتني، بقوة، وأنا ألتقي خليل الهاشمي الإدريسي، يوم الخميس 9 يونيو 2022، في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، خلال حفل توقيع كتاب “وكالة المغرب العربي للأنباء.. حقبة من تاريخ المغرب 1959-2020”.. كان آخر لقاء “شخصي” بيننا، بينما استمرت لقاءاتنا عبر الهاتف وعبر مواقع التواصل الاجتماعي…
في هذا الفضاء، كان اللقاء مع خليل الهاشمي… ومع توقيعاته، كان يتحرّك تاريخ حافل من إشراقات وآمال وحتى آلام الصحافة المغربية… وفي الحالتين معا، كان يتمازج المؤرخ والصحافي في بوتقة واحدة، ووحده خليل الهاشمي من فتح لهما أبواب التمازج في المسار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ببصمة وكالة المغرب العربي للأنباء…
وهنا التميّز، الذي أضفاه خليل الهاشمي على وكالة أنباءٍ هي مرآة الدولة المغربية، ولذلك، كان يظهر لي، وهو يوقّع الكتاب، لكأنه يبصم عليه بطابع مملكة محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، ولكأنه الإعلامي المؤتمن على صورة دولة ضاربة في التاريخ بكل مجد وبهاء…
عنما حلّ بوكالة المغرب العربي للأنباء، في 27 يونيو 2011، كان خليل الهاشمي يجرّ وراءه تجربة أزيد من أربعة عقود من الفعل الإعلامي، منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، من صحافي إلى كاتب عمود ثم رئيس تحرير لعدة منابر معروفة، قبل أن يرسو به بر صاحبة الجلالة، في سنة 2000، على تأسيس جريدة يومية إخبارية شاملة باللغة الفرنسية “أوجوردوي لو ماروك”، التي أثارت افتتاحياته الكثير من الجدل، من مؤيدين ومعارضين لتوجهاته، التي كان يرسم بها صورة جديدة لمغرب جديد بملك جديد…
وفي هذا الخضم وهذا المسار، لم يكن يبالي بالحرب التي كانت تُشن عليه، كان يقول كلمته ويمضي بلا التفات، وعندما يستوقفونه ويسائلونه، في هذه المحطة أو تلك، كان لا يتردد في القول: “أنا إعلامي، أحب مهنتي، وأعمل في خدمة بلدي وملكي”.
لذلك، عندما حل بوكالة المغرب العربي للأنباء، قبل حوالي 12 سنة، ستكون لخليل، في هذه “الدار”، انطلاقة أخرى وتوهّج وتألق، بحكم ما سيجده، معه وإلى جانبه، كوكبة من الأطر والكفاءات، في الإدارة والتحرير، في المركز والمكاتب الوطنية والمكاتب الدولية، كما سيطعّمها بدماء جديدة… هذه الكفاءات هي التي سيعتمد عليها في إعداد “خلطته السحرية”، في صنع كيمياء أعطت تجديدا وحياة متجدّدة لصحافة الوكالة، ساهم فيها الجميع، الرئيس المدير العام ونخبة من نساء ورجال “لاماب”…
ولذلك، ومنذ أن وضع أقدامه في “دار المخزن”، كان هناك نوع من الإجماع لدى زملائه، ولدى مؤيديه وخصومه على السواء، أن الوكالة لن تبقى كما كانت، وأن هناك تاريخا جديدا ستكتبه “لاماب” بقيادة ربّان متمرّس سيعرف كيف يُخرج الوكالة من مقرها الكائن في شارع علال بن عبد الله، لتنفتح على محيطها، على المغرب وعلى العالم…
عندما حل خليل الهاشمي بالوكالة سنة 2011، كانت هناك ظرفية خاصة وتحوّلات كبرى تعتمل في المجتمع، مع انطلاق حركة 20 فبراير، وخطاب تاسع مارس، الذي بصم به ملك البلاد على مغرب وضعه الجالس على العرش على سكة التغيير الديمقراطي، وهو ما أعطى، آنذاك، دستور الربيع المغربي… وكان لزاما أن تكون الوكالة الرسمية للدولة في قلب هذا التحوّل، ثم كان هناك خليل الهاشمي… كان إعلاميا متحركا لديه مشاريع باستمرار.. يقول خليل: “الإنسان الذي ليس لديه مشاريع لا يملك توجها. أنا أملك مشاريع جديدة على الدوام، فأنا أحب العطاء وتحقيق النتائج”…
والنتائج هي ما يلاحظها المراقب الموضوعي بشكل ملموس: وكالة المغرب العربي للأنباء تحوّلت إلى أكبر مؤسسة إعلامية في البلاد، وإلى معلمة إعلامية رائدة في محيطها الإقليمي والقاري، مؤسسة أسست واحتضنت مختلف وسائل الإعلام والتواصل التقليدية والحديثة، من جريدة ورقية ومواقع إلكترونية إلى قنوات تلفزية ومحطات إذاعية إلكترونية، فضلا عن العديد من النشرات والمنشورات… وكل هذا بروح مغرب تاسع مارس: تقديم خدمات إعلامية تحترم ذكاء القارئ والمشاهد، بمنتوجات إعلامية حريصة على تمثّل قيم المهنية والاحترافية والتوازن والموضوعية، بغضّ النظر عن بعض الأخطاء، التي لا يرتكبها إلا من لا يعمل… في “لاماب”، باتت كل مكونات وحساسيات المجتمع حاضرة، إنها صورة لمملكة محمد السادس: معرب متنوع ومتعدد وموحد يسع الجميع…
هو هذا زميلنا وصديقنا وفقيدنا خليل الهاشمي الإدريسي، الذي يجسد التنوع والتعدد حتى في شخصيته: إذ كان هو المهندس الإداري للوكالة، وهو الساهر على الخط التحريري، وهو الصحافي الذي ظل يكتب الافتتاحيات في المحطات السياسية الدقيقة التي يمر منها المغرب، وهو الشاعر الذي يبدع في اللغة والمشاعر، وهو القارئ النهم الذي يحلو له أن يتحرر من غبار السياسة إلى عوالم الصوفية مع “الفتوحات المكية” لمحيي الدين ابن عربي…
وبين كل هذا وذاك، يحق للصديق خليل الهاشمي، وهو يودّعنا اليوم، أن يرتاح وهو يترك وراءه صورة مضيئة لوكالة المغرب العربي للأنباء، ويحق له أن يتباهى بالمسار التطوري، الذي عرفته “لاماب”، التي تحوّلت اليوم إلى وكالة أنباء حديثة، وإلى قطب عمومي للوسائط المتعددة، بحضور قوي وفاعل ومنتج ومنفتح ومفتوح على التطور الموصول، في مسعى جماعي استشرافي لوسائل إعلام الغد…
سلاما السي خليل، نم قرير العين، فقد عملت واجتهدت وأخلصت وأعطيت… وكل العزاء لأسرتيك الصغيرة والكبيرة…
مراد بورجى
إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.