سبتة ومليلية بين حزب بركة وجمعية غالي وجزائر تبّون.. هل تعود العلاقات بين المغرب وإسبانيا إلى نقطة الصفر
مراد بورجى
في أقل من أسبوع، عاد موضوع سبتة ومليلية المحتلتين إلى الواجهة في الساحة المغربية، سياسيا مع حزب الاستقلال، وحقوقيا مع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ما دعا إلى التساؤل: هل يمكن أن تشكل إثارة هذه القضية عاملا في تفجير العلاقات بين المغرب وإسبانيا والعودة بها إلى نقطة الصفر؟ خصوصا بعد الأزمة الحادة، التي استمرت حوالي سنتين من الشد والجذب بين الشريكين الاستراتيجيين، إلى أن انتهت في مارس 2022، بـ”مصالحة كبيرة”، اعترفت فيها إسبانيا بسيادة المغرب على الصحراء واعتبار مقترح الحكم الذاتي الأساس الوحيد لتسوية هذا النزاع الإقليمي المفتعل…
وهكذا، سجّل المراقبون، يوم السبت 24 فبراير 2024، الخرجة الإعلامية للبرلماني الاستقلالي عن فاس وعضو اللجنة المركزية لحزب الاستقلال، عبد المجيد الفاسي الفهري، النجل الأصغر للوزير الأول الأسبق عباس الفاسي، في معرض جوابه عن سؤال للزميل رشيد حلاوي، طرحه عليه خلال استضافته في برنامج “داخل الحلبة”، الذي تبته قناة رأي الشباب المغاربة (L’ODJ)، حول إمكانية تغيير اسم الحزب بعد 70 سنة من الاستقلال، خلال مؤتمره الثامن عشر… كان ردّ النائب البرلماني عن الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية حاسما وهو أن حزب الاستقلال لن يغيّر من اسمه إلاّ بعد استقلال سبتة ومليلية السليبتين… السؤال، هنا، الذي يطرح نفسه: هل هذا يعني أن حزب الاستقلال سيطرح هذا الموضوع الحساس للنقاش خلال مؤتمره الوطني، الذي تعذّر انعقاده في أمده القانوني، خوفاً من “نِزارْ يخفّفْ”، حتى اضطر إلى تحديد موعده نهاية أبريل المقبل تحت ضغط وتهديد وزارة الداخلية بإعمال المساطر القانونية ضد حزب الزعيم علال الفاسي…
من جهة أخرى، وبعد خمسة أيام من هذا الموقف الاستقلالي، وتحديدا يوم الخميس 29 فبراير 2024، سيقوم وفد من المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بوضع رسالة لدى ممثلية الأمم المتحدة بالرباط، موجهة إلى رئيسة لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار (اللجنة الرابعة)، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، تطالب فيها الجمعية بإدراج موضوع الأراضي المغربية، التي ما زالت الدولة الإسبانية تحتلها، على جدول أعمال اللجنة، من أجل إنهاء الاستعمار الإسباني للثغور المغربية، المتمثلة في مدينتي سبتة ومليلية المطلتين على البحر الأبيض المتوسط، والجزر الجعفرية وجزيرة إيسلي (ليلى) والنكور وباديس بسواحل منطقة الريف بإقليم الحسيمة، وجزر الخالدات (الكناري) الواقعة في المحيط الأطلسي، وذلك في إطار دور اللجنة الرابعة في تثبيت حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والسيادة على أراضيها.
ولا يُعرف هل من عجائب الصدف جاءت مبادرة الجمعية الحقوقية المغربية متزامنة مع إعلان الرئيس الجزائري عن موقف معادٍ لوحدة المغرب الترابية، أم جاءت ردًّا صريحًا على تصريح عبد المجيد تبّون، خلال لقائه مع نظيره الموزنبيقي فيليب خاسينتو نيوسي، حين اعتبر، حرفيا، قضية “الصحراء الغربية آخر مستعمرة في القارة الإفريقية”… وبعد أقل من ساعتين، ستأتي مبادرة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، حين تحرك رئيسها عزيز غالي، ونائبته خديجة عيناني، وعضو مكتبها المركزي الطيب مضماض، لوضع طلب رسالة المطالبة بإنهاء الاستعمار الإسباني للثغور المغربية المحتلة أمام ممثلية الأمم المتحدة بالرباط…
في الحالين معا، سواء جاء موقف جمعية غالي صدفة أم مستقصدا تجاه موقف الجزائر، التي تنفرد، في العالمين العربي والإسلامي، بكونها الدولة الوحيدة، التي تؤيد احتلال إسبانيا للأراضي المغربية، إضافة إلى موقف حزب الاستقلال، المعروف أنه لا يكفّ تاريخيا عن طرح قضية تحرير سبتة ومليلية وباقي المناطق المحتلة، فإن الظرفية الدقيقة، التي تمرّ منها المنطقة عموما، بتجاذباتها وانشطاراتها، هي التي فرضت طرح السؤال: هل يمكن أن تجرّ إثارة ملف الثغور المغربية المحتلة إلى أزمة جديدة بين الرباط ومدريد؟
في اعتقادي، أن احتمال بروز أزمة جديدة بين المغرب وإسبانيا مسألة مستبعدة جدا لعدة عوامل موضوعية وازنة، أولها أن البلدين ذاقا معا مرارة القطيعة السابقة، التي ضربت مصالحهما المشتركة في مقتل، وثانيها أنهما ذاقا، بالمقابل، المكاسب الكبرى لعلاقات ثنائية سليمة ومتقدمة جعلت منهما شريكين استراتيجيين، يحقّقان أرباحا ضخمة لا تصمد أمامها أية خسائر حاصلة أو محتملة…
ثالثا وأساسا، فإن سلطات البلدين نأت بنفسها عن قضيةٍ تعتبرانِها محط “تجاذبات حزبية وحقوقية”، أكثر منها “مواقف دولتية”، رغم أن البلدين معا مازالا يتخندقان، رسميا، في مواقفهما التقليدية، مدريد تدافع عن أسبنة سبتة ومليلية، والرباط لا تكف عن المطالبة بإنهاء احتلالهما الإسباني…
وحتى عندما يتدخل البلدان رسميا وبشكل مباشر في الموضوع، فقد ظهر جليا أن سلطات الرباط ومدريد اتفقا، ضمنيا أو صراحة، على وضع هذه القضية في حجم متحكّم فيه إلى “أجل غير محدد”، خصوصا أن إسبانيا باتت متأكدة أن المغرب لن يسلّم أبدا في أراضيه المحتلة، إذ لم يعد خافيا أن رئيس الحكومة الاشتراكية بيدرو سانشيز، عند زيارته إلى الرباط خلال أبريل 2022، طلب من الملك محمد السادس عدم الحديث عن مغربية المدينتين، لكن ما أن اندلعت أحداث مليلية، يوم 24 يونيو 2023، والتي أفضت إلى العديد من الوفيات، خلال محاولة مهاجرين أفارقة التسلّل إلى المدينة المحتلة، وصدور تقرير حقوقي أممي، في شتنبر 2023، تحدّث عن هذه الأحداث على “الحدود المغربية الإسبانية”، حتى بادرت الديبلوماسية المغربية إلى مراسلة الأمم المتحدة لتنبّهها إلى أنه “من غير الدقيق الإشارة إلى (الخط الفاصل بين المغرب ومليلية) على أنه (الحدود الإسبانية المغربية). المملكة المغربية ليس لها حدود برية مع إسبانيا، وما زالت مليلية منطقة تحت الاحتلال، ولهذا السبب لا يمكن الحديث عن الحدود، بل عن نقاط عبور بسيطة”… ومباشرة، سترد الديبلوماسية الإسبانية بمذكرة مضادة إلى الأمم المتحدة تؤكد فيها إسبانية المدينتين المغربيتين… لكن الجدل المثار، وبحدة، وقتئذ، لم يؤثّر إطلاقا على الصفحة الجديدة التي فتحتها الرباط ومدريد في علاقاتهما الثنائية، وأعتقد، شخصيا، أن السبب في ذلك يعود إلى سياسة “ضبط النفس” و”الاحتواء”، التي درج الجالس على عرش المغرب على اتباعها في هذا الموضوع بالذات، الذي لديه به احتكاك خاص، منذ كان مازال وليا للعهد، إذ مازال الرأي العام يذكر زيارة “سميت سيدي” لرئيس الحكومة الإسبانية في مدريد سنة 1997، وكان آنذاك خوصي ماريا أثنار، وحاول إقناعه بـ”حل تاريخي” للجيبين المحتلين، وكذلك الأمر عقب جلوسه على العرش العلوي، إذ عمل، كلما دعت الضرورة، إلى دعوة إسبانيا إلى الالتزام بـ”حوار نزيه وصريح ومنفتح على المستقبل يؤمّن حقوق المغرب السيادية ويراعي المصالح الإسبانية”…
كما أن عددا من المراقبين لاحظوا أن المغرب ينهج، في هذا الملف، سياسة مرنة متدرّجة، يستعمل فيها الجانب التجاري والاقتصادي، لجعل إسبانيا تضطر إلى المفاوضة على السيادة، عندما تظهر لها أن كُلفة وجودها تتعدّى الحدود المتحكّم فيها، مثلما فعل المغرب، في دجنبر 2019، عندما قرر غلق معبر باب سبتة المحتلة أمام ممتهنات وممتهني “التهريب المعيشي”، مما نتج عنه بروز أزمة اقتصادية وتجارية واجتماعية في المدينة… أو مثلما فعل، قبل ذلك، وعلى مراحل، وبخطوة عملاقة، ببناء المركب المينائي الضخم طنجة المتوسط، الذي أصبح، اليوم، وبعد سنوات معدودات، ملتقى لا محيد عنه للتبادلات التجارية العالمية…
هذا النهج السياسي والديبلوماسي المغربي “الذكي”، وصفه عميل سابق في الاستخبارات الإسبانية، في يوليوز 2023، بأنه “مهارة دبلوماسية مغربية لاستعادة سبتة ومليلية وجزر الكناري”، ونقل موقع “فوز بوبولي” الإسباني عن هذا العميل السابق، واسمه فرناندو سان أوغستين، قوله إن المغرب لن يكتفي باعتراف إسبانيا بسيادة المغرب على الأقاليم الصحراوية، وزاد مؤكدا أن المغرب يعمل على مشروع غير معلن لاستعادة سبتة ومليلية وجزر الكناري، وهو يقوم بذلك بديبلوماسية حكيمة ومثابِرة للغاية، ويتفاوض بشكل ماهر وغير مستعجل، ويبرز قدرة رهيبة على التحمل والصبر والانتظار…