‏لماذا أنا مكتئب هذا الصباح؟ ‏


استيقظت هذا الصباح بمزاج معكّر ونفسية حزينة وخاطر مكتئب…

‏تابعت أمس إلى ساعة متأخرة صدور حكم الإدانة في حق النقيب محمد زيان، وتذكرت الساعات الطويلة التي كنت أقضيها في قبو محكمة الاستئناف بالدار البيضاء – قبوٍ متّسخ، بلا طعام، بلا مرافق، بلا هواء نقي – أنتظر أن تقرر هيئة في مصيري: هل أذهب إلى بيتي أو أعود إلى زنزانتي؟

‏كان الوقت الطويل الذي تستغرقه المداولة في مصير متهم واحد يبعث على الألم والسخرية في آنٍ واحد…!
‏كانت لحظة المثول أمام قاضٍ رفض كل طلباتك ودفوعاتك وفرص إثبات براءتك طوال أشهر من المحاكمة بمثابة تحصيل حاصل، ومع ذلك، كان دائمًا هناك خيط رقيق من الأمل تجده في عقلك أو قلبك، لا تعرف مصدره، يقول:
‏“اللهم إنّا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.”

‏بعد سماع الحكم، لك أن تقول:
‏“إنا لله وإنا إليه راجعون”
‏وتضيف:
‏“واصبر إنك بأعيننا”
‏وإذا أردت الانتقام الرمزي تقول:
‏“ثم إنكم يوم القيامة عندربكم تختصمون.”

‏تجمع ما بقي فيك من قوة وتركيز بعد مسلسل إنهاك طويل، ثم تمد يدك للأصفاد المسنّنة وتعود تحت الحراسة المشددة إلى السجن.
‏ثم تسأل: لماذا كل هذه السيارات والدراجات التابعة للأمن العلني والسري تخفرني إلى الزنزانة؟

‏هل تحرسني مخافة أن أفرّ من قدري، أم تحرس الحكم الذي صدر للتو في حقي مخافة أن يسقط؟
‏مجرد سؤال، وليس فيه فصل للتوضيح…

‏وسط أكوام من البشر ينتظرون قرار القضاة الذين يتداولون في مصائرهم، كنت أتطلع إلى وجوه لا حياة فيها، وعيون لا تعبير فيها، مثل عيون سمك بعد خروجه من الماء بساعات…

‏الحكم بثلاث سنوات سجنًا على شيخ جاوز الثمانين حكمٌ قاسٍ جدًا،
‏فيوم واحد في السجن لشيخ يجرّ وراءه اكثر من ثمانية عقود، ولائحة طويلة من الأمراض، يعادل عشرات السنين مما يعدّه الإنسان خارج السجن…

‏كنت أتوقع الأسوأ بالنظر إلى المناخ القاري الجاف من الحرية والرحمة والعقل والحكمة الذي نتحرك داخله…

‏فلا أحد في الدولة أو المجتمع يفصل بين قرارات المحاكم والمناخ السياسي، هذه صارت واحدة من ثوابتنا الوطنية، ماذا نفعل…

‏الخبر الثاني الذي أدخل الهمّ إلى نفسي هو قرار القضاء الجزائري باعتقال الجزائري الوحيد الذي ما زلت أقرأ له في الصحافة: كمال داوود.

‏فقد أصدر القضاء الجزائري (الشامخ) “مذكرتي توقيف دوليتين” في حق الكاتب الفرنسي الجزائري كمال داوود وزوجته الطبيبة النفسية عائشة دحدوح، لكشفهما عن قصة مريضة واستخدامها في كتابة روايته “حوريات”، التي فازت بجائزة غونكور العريقة في فرنسا لعام 2024.

‏رفعت السيدة عربان دعوى قضائية ضد داوود في فرنسا، بتهمة انتهاك الخصوصية ونشر معالم من قصتها التي تعود إلى العشرية السوداء، من تلقاء نفسها، ولم يدفعها أحد.

‏جيش جارتنا تزعجه كلمات داوود ومقالته الأسبوعية في مجلة Le Point.كما تزعجه أعمال الحفر في صفحات الحرب الاهلية التي عرفتها الجزائر من 1992 إلى 2002 والتي قتل فيها ما يزيد عن 200 الف مواطن جزائري، لهذا يسعى لخنق هذه الكلمات …

‏من حسن حظ كمال داوود أنه في فرنسا الآن، وإلا لكان قد اقتسم نفس الزنزانة مع مواطنه بوعلام صنصال، الذي يُحاكم في حالة اعتقال عن رأي في التاريخ والجغرافيا الجزائرية…

‏كمال داوود سبق ان قال في حديث لمحطة “فرانس إنتر” أن “كل الناس في الجزائر، وخصوصاً في وهران، يعرفون قصة (عربان)، إنها قصة عامة”.
‏وأضاف:
‏“أنا آسف، ولكن لا يمكنني أن أفعل شيئًا لمجرد أنها وجدت نفسها في رواية لا تأتي على ذكر اسمها، ولا تروي حياتها، ولا تتناول تفاصيل حياتها.”

‏من جانبها، نددت دار “غاليمار” الفرنسية الناشرة لمؤلفات داوود، “بحملات التشهير العنيفة التي تقف وراءها بعض وسائل الإعلام القريبة من نظام طبيعته معروفة.”

‏ما أقسى الكلمتين الأخيرتين: (طبيعته معروفة)…دارغاليمار هذه كلماتها مسمومة

‏ما زال الناس في المغرب العربي، أو المغاربي، يذهبون للسجن على كلمات أو جُمل أو كتب أو تصريحات أو آراء في التاريخ والجغرافيا والسياسة والأدب…

‏لا يجب أن نخاف من الآراء المختلفة، علينا أن نخاف من قمع هذه الآراء، هنا مربط الفرس لكن من يسمعك ؟.

‏كيف تحرم السلطة المعتقل السياسي او الصحافي او المؤرخ او الحقوقي من تعاطف الجمهور عندما تدخله إلى الكوليماتور القمعي ؟
‏أي كيف نقلل من كلفة القمع؟ كيف نقتله دون ان ندفع احدا لذرف الدموع عليه ؟

‏فلا أحد في العالم يمكنه أن يقبل اليوم سجن صحافي أو سياسي أو حقوقي أو أديب، على مجرد أنه عبّر عن رأي.

‏هنا تأتي الحيلة غير المبتكرة : إنها التهم البديلة، دائمًا، هذه جاهزة، والمشتكون موجودون (وعلى قفا من يشيل) بالتعبير المصري، والإعلام (المخدوم) جاهز لتنشيط حفلات سلخ اللحم البشري هذه، في انتظار أن “يطبخه” الآخرون على نار هادئة، ويلقوا به إلى غياهب السجن…

‏وكلّه بالقانون يا باشا، على حد تعبير أحمد زكي في فيلم “ضد الحكومة”…

‏قال جون ستيوارت ميل منذ زمن:
‏“إسكات رأي، حتى لو كان خاطئًا، هو حرمان الإنسانية من فرصة تصحيحه.”

‏على من تتلو مزاميرك يا ستيوارت؟

‏هل يحق لي أن أكتئب أم لا؟

- إشهار -

أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد