حين يكتب الجسدُ سيرته: قراءة نقدية لرواية “جينوم” أو “سيرة الجسد الطاهر”


رواية “جينوم” أو “سيرة الجسد الطاهر” عمل سردي معاصر يعيد التفكير في العلاقة بين الذات الفردية والسياسة من خلال عدسة الجسد، حيث يتشابك الحميمي بالعام، والخاص بالجماعي، والعاطفة بالأيديولوجيا، ليقدم خطابًا مغايرًا للتقاليد السردية البطولية.

تدور أحداث الرواية في مدينة مغربية، حين يقرر رجل سياسة ومناضل يساري أن يكتب سيرته الذاتية، فيلجأ إلى كاتبة لتساعده على إنجاز هذه المهمة. غير أن العلاقة بين الكاتب والكاتبة لا تبقى في حدود التوثيق الأدبي، بل تتحول تدريجيًا إلى علاقة حميمية معقدة، يتداخل فيها الجسدي بالعاطفي، والمهني بالشخصي، مما يكشف عن هشاشة البطل وتوتراته الداخلية.

من منظور نفسي، تعكس هذه العلاقة حاجة البطل إلى إعادة تشكيل صورته الذاتية في أعين الآخر، وتحديدًا في عين المرأة التي تُمثّل له في الوقت ذاته الأم، العشيقة، والمُنقذة. تتحول الكاتبة إلى مرآة يطل من خلالها البطل على ذاته المتصدعة، ويحاول من خلال العلاقة الجسدية معها استعادة جزء من السيطرة والاعتراف الرمزي الذي فشل في نيله من الفضاء العام.

أما من منظور نسوي، فإن الرواية تطرح إشكالًا مركبًا يتعلق بتمثيل المرأة كأداة لإعادة ترميم الرجل المنكسر. فبدل أن تكون الكاتبة صوتًا مستقلاً يسرد تجربة الغير، تصبح جزءًا من هذه التجربة، بل تُبتلع داخلها. وهنا يُطرح سؤال حول موقع الأنوثة في مشروع السرد الذكوري، ومدى قدرتها على الحفاظ على ذاتها في علاقة غير متكافئة من حيث السلطة والخبرة والحضور.

أول ما يلفت الانتباه في الرواية هو أسلوبها السردي الذي يتسم بالحميمية والانكسار. يعتمد الكاتب على ضمير المتكلم في العديد من المقاطع، مما يضفي طابع الاعتراف والاعتزال الداخلي على السرد. كما أن استخدام تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) يسمح بإعادة بناء التجربة الحياتية للبطل من خلال منظور مأزوم، حيث يتم تذكر الماضي لا بهدف الحنين، بل لإعادة تأويله على ضوء الخسارة والخذلان.

الزمن في الرواية غير خطي، وهو ما يعكس اضطراب الذات الساردة، ويعبّر عن التوتر المستمر بين ما كان ينبغي أن يكون، وما صار إليه الواقع. تتقاطع الذاكرة مع الحاضر في تدفق داخلي يكشف عن عمق التحولات النفسية التي خضع لها البطل، المناضل الذي قضى حياته في ترديد الشعارات الثورية.

اللغة المستخدمة ذات طبيعة شاعرية وكثيفة بالرموز، خاصة عند التطرق إلى مواضيع الجسد والأنوثة. فالرواية لا تتعامل مع الجسد ككيان بيولوجي فقط، بل كمجال تتقاطع فيه السلطة والرغبة، العنف والمقاومة. الجسد هنا هو المساحة التي تُعبَّر من خلالها عن الاضطراب النفسي والاجتماعي، وهو في الوقت ذاته رمز لوطن مستلب.

- إشهار -

يُقدَّم البطل بوصفه شخصية مأزومة، تتقاطع فيها الصراعات السياسية مع الانهيارات العاطفية. هذا المناضل الذي كان يحمل رايات الثورة، يظهر في الرواية كمرآة تعكس قلق الوطن، وهشاشة الأحلام الجماعية، وانهيار فكرة البطولة ذاتها. فالرواية تقدّم خطابًا مضادًا للبطولة التقليدية، وتكشف أن الشعارات ليست إلا أقنعة للهروب من مواجهة الذات.

الأنوثة، من جهتها، لا تُصوَّر كموضوع للمتعة أو كعنصر هامشي في حياة المناضل، بل تُستعاد كمفهوم مفقود، ككائن هش وسط نيران النضال الذكوري، وتُقدَّم في صيغة احتجاج صامت ضد التشييء والتهميش. بهذه الطريقة، تمارس الرواية تفكيكًا مزدوجًا: لتاريخ الأيديولوجيا، ولتمثيلات الجسد والأنوثة.

من الناحية السردية، تنتمي الرواية إلى تيار السرد النفسي المعاصر، حيث يغلب عليها التأمل الداخلي، ووصف الهشاشة، وتفكيك المعاني الكبرى عبر تفاصيل الحياة اليومية. وهي بهذا تبتعد عن منطق الحبكة التقليدية، لصالح بناء درامي يتأسس على التوتر العاطفي والفكري.

في النهاية، “جينوم” ليست فقط رواية عن جسد أو عن مناضل مهزوم، بل هي سردية عن وطن مأزوم، عن الحلم حين يتحوّل إلى عبء، وعن السياسة حين تصبح مرآة للهشاشة الداخلية. إنها نص يضع القارئ أمام أسئلة وجودية عميقة، تتجاوز السياسي إلى الشخصي، وتتقاطع فيه الذوات عبر سرد يُراكم المعنى من خلال الخسارة والانكسار.

بهذا، تفتح الرواية أفقًا جديدًا للكتابة التي تتخذ من الجسد منطلقًا لرؤية العالم، ومن الحميمي طريقًا لفهم الجماعي، ومن اللغة وسيلة للمساءلة والتشظي، لا للطمأنينة والإجابات السهلة.

أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد