دفاعا عن أحمد الشرعي

نوفمبر 2016، أصعد الطائرة من باريس قادمة من تل أبيب متجهة الى الدار البيضاء، اشعر بيد تربت على كتفي، التفت، كان صديقا لي رافقني في زيارة الوفد الصحفي الى اسرائيل، يبتسم، لا افهم لماذا، يقترب مني وهو يشير باصبعه الى شخص يجلس في المقاعد الامامية من الطائرة، ويقول:”انظري من عائد معنا من هناك”، لم أتعرف على الرجل، فقال لي الصديق:”أتذكرين ملف كريس كولمان؟ الايميلات المسربة؟ هذا هو الشرعي الذي كانت تتحدث عنه هذه الايميلات عن علاقته بالموساد”.
يستحضر صديقي هذا هذه الواقعة كلما طفت حملة تشهير مفتعلة ضدي، ونضحك، نضحك وهو يردد في كل مرة لازمته:”غريب كيف أنه في طائرة واحدة كنتما في طريق العودة الى المغرب، من نفس المكان، لكن كل واحد منكما يحمل رؤية مختلفة، وطريقة عمل مغايرة، الفرق انك لا تحتاجين ان ترددي كل مرة انك وطنية، وتدافعين عن الوطن، بل انت حتى لا تلجئين نهائيا الى طريقة الهروب هاته.
لكن السؤال الذي يشغل حقا بالي:
كيف بدأت الحكاية؟
حكاية “التواصل” مع إسرائيل؟
حكايتك معها حين تولد مغربيا، مسلما، بجواز مغربي لا يسمح لك بزيارة عادية لتلك الارض، تربيت والحسن الثاني يردد على مسامعك “اليهود المغاربة سفراؤنا في الخارج”، وتسمع في الاخبار، وتقرأ في دروس التاريخ ان هؤلاء اليهود المغاربة منهم من يشغل منصب وزير الدفاع في جيش يقتل فلسطينيين تجمعك معهم اللغة، والدين؟
لا أعرف كيف بدأت حكاية أحمد الشرعي مع إسرائيل حتى وصل الى ان يكتب بضمير مرتاح “كلنا اسرائيليون”، ويهاجم بكل ثقة قرار الاعتقال الدولي لنتنياهو، في عز الاجرام ضد الانسانية قبل ان تكون ضد اهل غزه، لكن ما اعرفه، ان بداية الحكاية، حافزك، ودافعك الى استكشاف الضفة الاخرى من الحكاية بعيدا عما سمعته، وقرأته، وارادوك ان تقتنع به، وترثه، وتتوارثه، هو ما يحدد كيف تنتهي…
أن تنتهي على طريقة احمد الشرعي وهي :”إسرائيل أولا، وأخيرا”، أو على طريقتي، وهي: “المغرب أولا، فلسطين لها الحق ان تكون دولة مستقلة، اسرائيل عضو في الامم المتحدة، والعلاقة معها يجب ان تكون الند للند، وليست علاقة تبعية، او حتى انبهار”.
لا أعرف كيف بدأ الرجل حكايته مع اسرائيل، سمعت من هنا، ومن هناك، لكني اعتدت ان التزم بقاعدة الصحافة الذهبية “تؤخذ المعلومة من فم الاسد”، اي من مصدرها، وانا لا اعرف الرجل، حتى اعرف منه كيف بدأت الحكاية، وان كان ادعى انه هو من بعث بي الى اسرائيل، بل حتى ادعى اني حاولت لقاءه مرارا، ورفض، مع ان الحقيقة انه حاول لقائي بعد سماعه بخبر ذهابي الى اسرائيل منسقة للوفد الصحفي، وتفاديت اللقاء به، وان كان ينكر هذا، وهو يعرف ان “وداد” خير شاهدا.
وبما اني أحب ان اختلق القصص، يمكن ان اسمح لمخيلتي ان تكتب سيناريو فيلم عن “عقدة القصة” التي ستحول مسار رجل مغربي عادي، الى رجل “اسرائيل”…
قد اتخيل مثلا انه يحمل طفله وهو يركض في شوارع الدار البيضاء يبحث عن مستشفى ولا يجد مكانا له، ويتلقى اتصالا من صديق يخبره ان لديه صديقا في “المستشفى العبري” الخاص بالطائفة اليهودية سوف يتصل به، ويجعله يقبل استقبال طفله، واجراء العملية له، ومجانا، والعملية تنجح….
يمكن ان اتخيل سيناريوهات متعددة عن رجل ولد مسلما، وفجأة ينقذه اليهودي، ويتحول الى تابع له، في كل شيء، حتى في الظلم، فقط لان هذا اليهودي مد له يد المساعدة ذات مرة، او مرات، لدرجة جعلته في قرارة نفسه يؤمن بان “هذا الشعب مختار فعلا من الله”، وباقي الشعوب مجرد “قذرة”، و”متخلفة”.
أما حكايتي انا فمختلفة، يمكن ان تقرأها من نهايتها، من موقفي الذي لم يتزحزح يوما من القضية الفلسطينية كقضية انسانية اولا، وقبل كل شيء، ومن ولائي لبلدي المغرب أولا، وأخيرا، وهي حكاية لم يكن حافزي فيها ان اجد يهوديا يفتح لي مغارة علي بابا، بل ان اجد جوابا على سؤال:
“ماذا لو كنا ولدت يهودية مغربية؟”.
- إشهار -
قبل نوفمبر 2016، السنة التي وافقت فيها على الذهاب الى اسرائيل، كنت أحمل في قلبي عبء الرد على سؤال:”هل صحيح نحن من يهود الاندلس؟ هل لهذا انا اعشق الاندلس؟ هل لهذا اتردد على اسبانيا واتجه دوما الى la Juderia الحي اليهودي في الاندلس؟ هل هذا الحزن الذي اشعر به كلما وطأت قدمي هذا الحي حزن احمله في جيناتي؟”.
اتذكر امي وهي تجلس امام التلفزيون تفتح قناة فلسطينية وتبكي لعويل ام فلسطينية ثكلى، هي نفس الام التي تغضب ان شتمت في حضورها اليهود، وتصرخ في وجهك “مالهم ماشي خالقهم الله؟”، وهي نفس الام التي تسألك: “شكون اسرائيل؟ انا اعرف فلسطين، واليهود فقط”.
اتذكر والدي وهو يستقبل في منزلنا صديقا له مسلما رفقة زوجته اليهودية المغربية، ويستقبل ايضا صديقا له يهوديا ويصفه بـ”الاخ العزيز”، واتذكر زوجة عمي التي كانت تحرس وجودنا في مدينة وزان، وشجارها المتكرر مع جارة يهودية، وكيف كان كل شيء ينتهي الى خبر كان اذا مرضت الجارة، او اصاب زوجة عمي مكروها.
واتذكر ابي ونحن نزور ضريح مولاي عبد الله الشريف، ونعرج على زيارة ضريح عمران بن ديوان..
واتذكر ابن خالتي وانا اخرج رفقته في مسيرة مليونية ضد شارون، ونصرة لاهل جنين سنة 2003…
اسرائيل لا وجود لها في حياة عائلتي، لكن وجود اليهودي، والمسلم، في حياتي كان حاضرا منذ طفولتي، الفرق اني ارى المسلم، احادثه، لكني لا ارى اليهودي الا عبر اخبار الدم، والقتل، او على لسان عجوز لا يتحدث الا بلسان فرنسي اسمه اندري ازولاي. كنت اشعر دوما ان هناك جزءا مني مفقود، جزءا عاش معي لثلاثة ألف سنة، لكن اسمع به فقط، اشعر به فقط، لكن لا أراه، ولست قادرة على لمسه.
هذا كان حافزي لضرب كل شيء عرض الحائط، والذهاب الى “الارض المحرمة”…
لم ابحث يوما عن يهودي ليحولني الى قارون، ولا عن اسرائيلي ليعبد لي الطريق نحو النفوذ في بلدي المغرب، ولا ادعيت ان أمي يهودية، ولا ضربت في عرض المسلمين، ولا هاجمت الاسلاميين توددا للاسرائيليين، كل ما اردته ان اجد جوابا على سؤال:”ماذا لو كنت ولدت يهودية؟”.
لذلك كتبت كثيرا عن اسرائيل حين كنت في واشنطن اشتغل صحافية، وهناك عبدت لي طريق زيارة اسرائيل، وكتبت عنها اكثر وانا في المغرب، على صحيفة “الأخبار”، لكن أبدا، لم يحدث، ولن يحدث، ان أكتب يوما “كلنا اسرائيليون”، ولا ان ادافع عمن سيخلد اسمه في التاريخ مجرم حرب.
تذكر دائما، ان عرفت حافزك لاول زيارة لاسرائيل، ستعرف نهاية حكايتك معها، هل ستكون على طريقة أحمد الشرعي، ام على طريقة شامه درشول .