هل قرارات الجنائية الدولية في مهب “الفيتو”؟
لم تعد القرارات الدولية نافذة على أرض الواقع، خاصةً إذا كانت موجهة ضد الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني، وبالأخص إذا رفعت الولايات المتحدة الأميركية ورقة الفيتو.. فلماذا تقف المحكمة الجنائية الدولية عاجزة حدَّ الانكسار عن تنفيذ قراراتها؟ ولماذا تتغلب قوة الدول وعجرفتها السياسية على قوة القانون وفلسفة استقلاليته؟
في الوقت الذي يتحول فيه الدم إلى ماء، وتغرق الإنسانية في وحل الإبادة، تتجه الدول الكبرى إلى الوقوف وبكل قوة في وجه القرارات الدولية بشكل استفزازي، لا ينم عن مسؤولية تجاه الشعوب التي اغتُصبت حقوقها في وضح النهار، ولا شيء ينذر بحلول تلوح في أفق الصراعات، التي زادت من توسيع فجوة التعاون الدولي المسجى في نعشه.
لقد بات حلم التعلق بالقرارات الدولية التي تُوجّه ضد الكيان الصهيوني وممارساته عملًا روتينيًا بيروقراطيًا، وما هو إلا ضحك على الذقون، وملهاة كلامية ترتفع وتيرتها، ثم تخبو لتنضم إلى قائمة التقارير الملقاة في أدراج النسيان
إن التحول الخطير الذي يقود سياسة المعايير المزدوجة للمجتمع الدولي يبرهن على أن فلسفة الاستثناءات حاضرة في ملفات الشرق الأوسط بطريقة واضحة، فلم تعد القوانين الدولية مستقلة وقادرة على محاسبة المخطئ، تمامًا كما هو متوقع في القراءات التحليلية لقضية الشعب الفلسطيني جراء الانتهاكات الإسرائيلية؛ لأن الخصم والحكم منظومة واحدة؛ “فكيف أشكو منك إليك”؟
من حيث مسار الإثارة السياسية؛ فهذه ليست المرة الأولى التي تتصاعد فيها فكرة محاسبة قيادات الكيان الصهيوني، وليست المرة الأولى التي تذهب فيها مذكرات التوقيف إلى منحى إلقاء القبض على نتنياهو ووزير الدفاع المقال غالانت.
وليست الحالة الفريدة التي تستند فيها المحكمة إلى تقارير توثق الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني في فلسطين وخاصة غزة، لكن هي المرة الأولى التي تشهد انقسامات دولية، ورغبة أحرار العالم في تطبيق القانون دون تمييز، فهل تجد تلك القرارات انفراجة هذه المرة؟
لقد بات حلم التعلق بالقرارات الدولية التي تُوجّه ضد الكيان الصهيوني وممارساته عملًا روتينيًا بيروقراطيًا، وما هو إلا ضحك على الذقون، وملهاة كلامية ترتفع وتيرتها، ثم تخبو لتنضم إلى قائمة التقارير الملقاة في أدراج النسيان.. إلا أن الأمل يدفعنا إلى الصبر والانتظار؛ علّها تؤتي الثمار.
إن السؤال الذي يُلح علينا دائمًا يتمحور في ضعف الإجراءات التنفيذية الملموسة لوقف الجرائم المرتكبة على الأراضي الفلسطينية، من جرائم الإبادة إلى الاستيطان إلى العدوان على غزة، وليس انتهاءً بالاعتقالات الجماعية، فهل تفتقر المحكمة إلى وجود أدوات تنفيذ لقراراتها؟
وللإجابة عن مثل هذا السؤال علينا أن نسلّم بأن طبيعة عمل المحكمة الجنائية الدولية تعتمد على مدى التعاون الدولي من الدول الأعضاء والمجتمع الدولي؛ خاصة إذا كانت المحكمة تتأرجح في مهب حق النقض “الفيتو” الذي منحته الدول العظمى لها، لذلك فإن تباينات المصالح السياسية بين الدول هي التي تفرض نفسها في هذا الملف، والتي تُضعف قدرة المحكمة على التنفيذ، ناهيك عن الحماية الدبلوماسية التي فرضتها الأعراف السياسية للقادة المتهمين.
إن ما تؤكده الأحداث والحالة النفسية لنتنياهو يشير إلى أن الطرق أمامه باتت مسدودة، حتى وإن حاول مع أنصاره أن يدافع عن فكرة قديمة تسمى ديمقراطية الدولة العميقة، فلن يجدي ذلك العناء، لأن الأوراق تنكشف وتكشف عن سوءات كبيرة
تاريخيًا؛ تعيش قرارات الجنائية الدولية في مهب التناقضات، فلم تعد إلا قرارات رمزية في مجملها، أو انتقائية حد أنها تُفرض على بعضٍ وتُصرف عن آخرين، ما يؤثر سلبًا على مصداقيتها وفاعلية تطبيقها. لذلك، على الرغم من عدم وجود قوة عسكرية للمحكمة ـ إن جاز لنا التعبيرـ فإن القوى الشعبية والدبلوماسية هي الأمل في الدفع ببيّنة القانون، وتحريك مياه القرارات الراكدة ولو جزئيًا.
في الاتجاه الآخر، الذي يمثل حالة الفوضى السياسية والهزائم العسكرية والنفسية في بعض الجبهات؛ يعيش نتنياهو حالة التأزم الذاتي، والتي تؤكد على ساديته الدموية المتقاطعة مع الداخل الإسرائيلي، وبالتالي فإن حدث قرار المحكمة سيزيد طينته بلة، ويفتح الجرح الغائر في ذلك الكيان المتهاوي، الذي لم يستطع أن يفتح ملف الأسرى، خاصة بعد الضغط الممارس من الداخل، لذلك فإن ما يمكن أن يحدثه هذا القرار – ولو جزئيًا- يندرج ضمن سطوع أصوات المحاكمة العلنية تجاه ما يرتكبه الكيان الغاصب، ولعلها الورقة التي على الجانب الفلسطيني أن يلمّ شمله بها، مقابل ضمور الصوت العربي الموحّد.
إن ما تؤكده الأحداث والحالة النفسية لنتنياهو يشير إلى أن الطرق أمامه باتت مسدودة، حتى وإن حاول مع أنصاره أن يدافع عن فكرة قديمة تسمى ديمقراطية الدولة العميقة، فلن يجدي ذلك العناء، لأن الأوراق تنكشف وتكشف عن سوءات كبيرة ستخنق أريحية التمادي التي انتهجتها حكومته، المتمثلة في الحصول على إمدادات عسكرية تستهدف المدنيين، لإضعاف الوحدة الفلسطينية، وتخليد إثم الدولة القوية.. فهل باتت حكومة نتنياهو بين أمرين أحلاهما مرّ؟
على المديين القريب والبعيد، فإن إرادة الشعوب التي تمثل الرأي العالمي الحر، لا تعتمد كليًا على ما تحدثه قرارات المجتمع الدولي من تأثير، ولكنها تعزز لديها التكاتف باعتباره فرصة تلفت الانتباه إلى الجرائم الإسرائيلية، فيما يمكن للمنظمات الحقوقية أن تبني توجهاتها على تلك القرارات المفضية إلى فضح الانتهاكات المتكررة، وبالتالي فإن التوحد بين شطرَي الحرية (الضغوط الشعبية والمنظمات الحقوقية) سيزيد من الضغط على الحكومات “الديمقراطية” لتغيير سياساتها، والتراجع عن دعم إسرائيل.
وحتى لا تذهب قرارات المحكمة الجنائية الدولية في مهب الفيتو، لا بد من المناداة بفكرة التمكين من خلال إصلاح النظام الداخلي، وإنشاء منظومة تنفيذية تدعمها الأمم المتحدة، والضغط على من يتملك قرار الفيتو للتوقيع على نظام روما الأساسي
وفي إطار خارطة التوازنات السياسية، فإن قرار الجنائية الدولية سيكون فرصة للدول الصاعدة لتعزيز دعمها للقضية الفلسطينية، وتغيير “بيروقراطية” التعامل السياسي برمته، خاصة فيما يتعلق بمنظومة مجلس الأمن، الذي سيضع فكرة “الفيتو” في محل نقاش ساخن، خاصة إذا كان يقف في وجه العدالة الدولية، وتكون بمثابة بداية للدول التي تنشد “التغيير” في الواقع السياسي.
المقاطعة للشركات الداعمة للكيان الصهيوني، والتي تكبر ككرة الثلج في أفق الاقتصاد العالمي، ستلقي بثقلها على الداخل الإسرائيلي بشكل أكبر إذا سار القرار في قنواته القانونية، باعتبار سلاح المقاطعة عاملًا مؤثرًا في تنفيذ القرار، خاصة في خضم إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية، التي تعزز وجود حلفاء جدد للقضية الفلسطينية.
وحتى لا تذهب قرارات المحكمة الجنائية الدولية في مهب الفيتو، لا بد من المناداة بفكرة التمكين من خلال إصلاح النظام الداخلي، وإنشاء منظومة تنفيذية تدعمها الأمم المتحدة، والضغط على من يتملك قرار الفيتو للتوقيع على نظام روما الأساسي، حتى يسير القانون في مجراه بشكل عادي لا انتقائي، ويتم تجنب المعايير المزدوجة في المواقف السياسية.